المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة أدبية لقصيدة (خط الجنوب)..الجزء الثالث..والرابـع..


مرعي بن حربان
04-15-2012, 08:45 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


خط الجنوب


الرد





أبـغــى سـقــفٍ يفيـيـنـي وثـــوبٍ يـغـطــي عـالـجـنـوب
وأبغي الله يعطيني ولا أبغي من أصحاب العطاء شي
وأنـــا مـانــي عـلــى مـــا فـــات متـحـسـفٍ ومـنـدمــا
مـا أبغـي آغسـل الماضـي بمـاي العيـون المنضحـيِّـه
كُــلّ شــوفٍ يعـيـش الـحـزن يعـمـى ويتـعـدى تـلــوف
وإن توفـوا ملـوك الأرض مانـي لــذاك المـلـك وارث
عـشـت عيـشـة كـفـاف وكنـنـي ظـامــيٍ يـتـبـع ثـــرى
مـا أبغـي أدق بــاب الــلاش وإلا يــدق الــلاش بـابـي
خَـــلّ دنـيــاك يـــا قـلـبـي عـلــى مـــا تـريــد وتمـتـنـي
عـالـمـي مـــا تـقـيـده الـقـيـود الـوثــاق ومـــا تـحـجَّـر
وأنــا مــا عــاد بــي إلا تـغـرق الــروح فـــي لـذاتـهـا









الشاعر الدكتور


عبد الواحد الزهراني






أبغي سقفٍ يفييني وثوبٍ يغطي عالجنوب




تلك عيشة الكفاف التي سيكشف الشاعر لاحقاً نشأته عليها...
سقفٌ يقيه حر الشمس وثوبٌ يقيه شدة البرد...
يكفي هذا... إن معاناته وأمثاله مع خط الجنوب كفيلة بمنحهم كنـز القناعة الذي لا يفنى...
إن بيتاً شعبياً وثوباً من أردى أنواع الأقمشة كلبس الحرير في القصر المنيف...
أيها القارئ الكريم هو والله مثل غيره من الناس وأنت تعلم أنه ((زُيَّن للناس حُبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المُسوَّمة والأنعام والحرث)) لأن ((ذلك متاع الحياة الدنيا)) لكن حالة اليأس والإحباط أرضته وأقنعته بالقليل...
فهو يحاول أن يتظاهر بمظهر المتصالح مع نفسه وهو يرى أباه يذبح للضيوف عشرين خروف, وهو من البيضة إلى الدجاجة ومن الدجاجة إلى البيضة ولا يدري أيهما سبق الآخر...
وهو يرى أباه يركب الشبح ويشتري له - ونيت هايلوكس - ...



الله يغفـر لأبـي مـا خـذ لــي إلا ونـيـت
يا خجلي كُلَّ ما شفت الهمر والجموس
ولا كسـر قلبـي إلا عسـكـري الـمـرور
اللـي منعنـي لـو أدخـل شـارع التحليـه







إنها الدرجة المناسبة للطموح فالذي يُنَصَّبُ خليفة على المسلمين يطمع في توسيع رقعة دولته على حساب الكافرين ((حتى يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون))...


والذي يحكم عليه بالإعدام فهو لا يطمح إلا في العفو عنه وإنقاذه من حبل المشنقة.
كذلك فالشاعر هنا يعرف أنه يعيش ويحيا حياة الطبقة الكادحة والطموح الذي في متناول خياله مسكن يأويه وأسرته حتى أنه في قصيدة أخرى يوصي باستثمار قرضه الموعود به لبناء المسكن في بناء مقبرة وتشييدها لتصبح أجمل مقبرة.
فتلك درجة الطموح في الحياة وهذه درجة الطموح بعدها.





وأبغي الله يعطيني ولا أبغي من أصحاب العطاء شي




"ألك حاجة؟؟"
- "أما إليك فلا... وأما إلى الله فنعم".
إن مما تفرزه حياة الكفاف في قلب صاحبها صدق التوكل وإدراك أن ما أصاب من نعمة فمن الله, فهذا الرجل الذي عاش على البساطة والكفاف, وعانى ما عاناه من شظف العيش, يرفع يديه إلى الله, مستقبلاً القبلة, لا يبتغي إلا ما عنده ولا يرجو سواه.
ذاك أن أصحاب العطاء وإن أعطوا شيئاً فهم...
أولاً:- لن يعطوا إلا من ما أعطاهم الله من فضله.
ثانياً:- أن عطاءهم قليلٌ وإن كثر.
ثالثاً:- أن سؤالهم يسبقه الذل وعطاءهم يتبعه المَنُّ والأذى.
والإفراز الآخر لعيشة الكفاف هي العزة والكرامة, وهي ما يمنع الشاعر هنا من سؤال أصحاب العطاء, ومن الرغبة فيما في أيديهم.








وأنــا مـانـي عـلـى مــا فــات متحـسـفٍ ومنـدمـا
ما أبغي آغسل الماضي بماي العيون المنضحيِّه
كُـلّ شـوفٍ يعيـش الحـزن يعمـى ويتعـدى تلـوف



"فلا تذهب نفسك عليهم حسرات".
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة فكيف أبكي على شيءٍ إذا ذهبا
الشاعر رغم كل هذا ينظر إلى الإمام ويستشرف المستقبل ولو بلا تفاؤل, لكنه رغم هذا وذاك لا يأسف على الماضي ولا يندم عليه.
ذلك أنه يدرك تماماً أن الحزن لا يكتفي من صاحبه بإلقائه في غياهب سجن الألم وغيابة جُبِّ الدموع بل إنه يأتي عليه بالويلات, ويسكنه فسيح البليات.
ولهذا بالفعل (لا تحزن)..
لا تحزن فإن...

كُلّ شوفٍ يعيش الحزن يعمى ويتعدى تلوف

أما علمت أن يعقوب عليه السلام حينما غسل ماضيه مع ابنه يوسف عليه السلام بماء عينيه لم يبيض هذا الماضي من الغسيل وإنما "أبيضت عيناه من الحزن".
إن الشاعر ببساطة يدرك أن هذا الطريق بالفعل كان ذئباً أكل أحبابه ورفاقه...
لقد أدرك بالفعل أن من أتاه بقتلى هذا الطريق جاؤوا على قميصه بدمٍ صدقٍ ولذلك فهو على يقينٍ أن حزنه وبكاءَهُ لن يغني عنه من الله شيئاً .....
فإن فَقَدَ بصره وأبيضت عيناه من الحزن فلن ينفعه أن يأتيه بشيرٌ بقميصٍ يلقيه على وجهه ليرتدَ بصيراً, لأن الأمل هنا منقطع في الحياة الدنيا لعلمه: "أنهم إليها لا يرجعون".
الحسافة والندم أخي القارئ وجهان لعملة واحدة عند العامة, ولكن الحقيقة أن بينهما فارق بلاغي عند الخاصة فأحدهما ينبئ عن شعار هذه العملة والآخر عن قيمتها...
والندم أبلغ وأشد من مجرد (التحسف) ولهذا كان من شروط توبة التائب الندم على ما اقترف من الذنب.
فيما يكتفي (التحسف) بالقول:


ألا ليت الشباب يعود يوماً




وقفات مع قول الشاعر:

ما أبغى آغسل الماضي بماي العيون المنضحيّه

الوقفة الأولى: (التحسف والندم) لا تكون على حاضرٍ ولا مستقبلٍ وإنما على الماضي الذي لا يمكن رجوعه, ولهذا أشار الشاعر.
الوقفة الثانية: الانسجام الفكري بين الألفاظ والمعادلة العلمية التي جمعت بين الموهبة لدى الرجل وهي الشعر والتخصص العلمي في الرياضيات والعلوم الطبيعية.
الماء من العيون Ü النضح بالماء Ü الغسيل بالماء
على الحقيقة الماء من العيون الجارية ونضحه دليلٌ على الوصول لنهايته, لكنه كافٍ لاستعماله في الغسيل بشكل طبيعي.
وفي الاستعارة هنا الماء من العيون المبصرة (الدموع) فكثرتها هنا تكفي لغسيل الماضي والذي هو أطول وأكبر بكثيرٍ من الحاضر والمستقبل, ولكن معينها ناضبٌ ولو بعد حين.
الوقفة الثالثة: غسيل الماضي يعني الرجوع إلى الوراء عبر الخارطة الذهنية والشاعر يدفعه الطموح إلى المستقبل فلا يقبل الوقوف في الحاضر فضلاً عن الرجوع إلى الماضي كما يظهر في وداعه الأخير في القصيدة حين يقول:-

عالمي ما تقيده القيود الوثاق ومـا تحجَّـر
وأنا ما عاد بي إلا تغرق الروح في لذاتها



"
ثم الشاعر يقول:-




كل شوفٍ يعيش الحزن يعمى ويتعدى تلوف



العين سمكة في بحر الدموع لا تعيش إلا فيها ربما لذلك كان الدمع ماءً مالحاً كماء البحر فمثل ما أننا لو انتزعنا العين من هذا الماء فإنها تفقد خاصية الإبصار, فكذلك لو نزفنا هذه الدموع وتركنا العين طريحة في محجرها فإنها تفقد خاصية البصر أيضاً.
(كل شوفٍ يعيش الحزن) ......
أرأيت أخي القارئ السمكة لو وضعتها في بركةٍ صغيرة فإنها تعيش في الماء أليس كذلك؟؟
أرأيت لو أنك حفرت لهذا الماء طريقاً ليخرج من البركة حتى تبقى السمكة في قاع البركة بلا ماء...
تأملها لحظات... إنها ترتجف وتنتفض مكانها ثوانٍ معدودة وهذا معنى (يعيش الحزن) ثم تفارق الحياة وهذا معنى (يعمى ويتعدى تلوف).
الفصاحة والبلاغة تقتضي من الشاعر القول بـ (كل شوفٍ) وليس (كل عينٍ) لأنه أراد الفائدة والمنفعة من العين والتي (يُتحسف ويُندم) عليها, وإلا فهو يرى أن ...

وإن توفوا ملوك الأرض ماني لذاك الملك وارث





أيها الناس:-

لست من أبناء كسرى... لست من أبناء قيصر

وما رأى أبي الخورنق ولا سمع بالسدير..
حفظ الله أبي فلن أرث بموته أكثر مما أحظى به في حياته...
هذا لسان حال الشاعر.
إنه يعلم أنه لن يرث الأرض لا بفرضٍ ولا بتعصيبٍ فماذا ينتظر إذاً؟؟
وانظر معي أخي القارئ لدقة الألفاظ لدى هذا الشاعر والذي يَتْكئُ على ثلاثة أركانٍ رئيسة :
1- الموهبة الشعرية.
2- العقلية التحليلية الدقيقة.
3- الثقافة والرؤية الواضحة.
الشاعر لم يقل (إن توفوا) رؤساء أو خلفاء وإنما قال (ملوك) لأن فرصة الانتخابات قد تتيح له الرئاسة ولربما أجمع أهل الحل والعقد على أحقيته بالخلافة!!.
لكن الملك جبرياً وعضوضاً, وقليلٌ من أولاد الملوك من يصبر على أبيه حتى يوافيه الأجل فيرث الملك , بل يبادر بالإطاحة به ليتولى الملك عاجلاً غير آجل.
ثم انظر إلى (ملوك الأرض), لم يقل ملك البلد الفلاني أو الفلاني وإنما (ملوك الأرض) كلها....
أهل العلم يقولون إن الأرض ملكها أربعة, اثنان صالحان وهما سليمان عليه السلام وذو القرنين , واثنان كافران وهما الاسكندر المقدوني, والنمرود بن كنعان.
و(الملك) من أعظم ما يؤتى الإنسان ولهذا نَصَّ عليه سبحانه بقوله "تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء) وإلا فكل ما أوتي مخلوق وكل ما نزع منه فإنه بمشيئة الله سبحانه وتعالى قل أو كثر.


عشت عيشة كفاف وكنني ظاميٍ يتبع ثرى




تقدم الحديث حول (عيشة الكفاف) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اجعل قوت آل محمدٍ كفافاً".
والكفاف على أي حالٍ تخفف من أعباء الحمولة في الدنيا والآخرة "لو كانوا يعلمون", لكن ابن آدم طَمَّاع "ولو كان له وادٍ من ذهب لتمنى له ثانياً, ولو كان له واديان لتمنى ثالثاً, ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب".
(كنني ظاميٍ يتبع ثرى) تشبيهٌ واضحٌ وجليٌّ ومعبرٌ عن صاحبه بدقة.
فالظامي الذي أعجزته الحيل وبلغ به العطش مبلغه في البر يقابل الغريق الذي يحاول أن يتعلق بقشة في البحر...
يتبع الثرى عَلَّ وعسى أن يجد به بقايا ماءٍ وآثار أمطار...




والرابع يعصرون الطين حتى يجي مايٍ منه




ماذا يفعل؟؟... هذا هو الأمل الباقي... لكنه في التحقيق العقلي لا شيء, وقصاراه أن يشكل لصاحبه حالة تفاؤل مبالغ فيها إلى درجة الوهم, حتى يهلك ويلقى حتفه, وقد يصل إلى درجة المستجير من الرمضاء بالنار.
قال الشاعر:






ما أبغي أدق باب اللاش وإلا يدق اللاش بابي
خَـلَّ دنيـاك يـا قلبـي عـلـى مــا تـريـد وتمتـنـي




أنت يا قلبي (ما تبغي من أصحاب العطاء شيء) فلتكن على (ما تريد وتمتني) ما لك ومال (اللاش) وهو في عرف بيئة الشاعر الرجل قليل الشأن والذي لا يأبه له أو هو الرجل الذي خرمت مروءته اجتماعياً إما بفعله أو بأصله.
الشاعر يقول هنا "لكم دينكم ولي دين".
إن من لا يمتلك عزة النفس التي امتلكها, ويصبو إلى الطموح الذي أصبو إليه, له طريق ولي طريق...




وشتان ما بين اليزيدين في الندىيزيد بن عمروٍ والأغـر بـن حاتـم


لا أطرق له باباً, ولا يطرق لي باباً.
ينتقل الشاعر مباشرة وبلا مقدماتٍ من خطاب الآخر إلى خطاب الذات وهو أسلوب قرآني يتكرر كثيراً – أعني الانتقال من صيغة خطاب إلى أخرى – فيقول:-




خَلَّ دنياك يا قلبي على ما تريد وتمتني






(والدنيا ساعة, فاجعلها طاعة).





عالمي ما تقيده القيود الوثاق ومـا تحجَّـر
وأنا ما عاد بي إلا تغرق الروح في لذاتها




يا قلبي هل تعرف أنت قلب من؟؟
أنت قلب رجلٍ طموحٍ , مناضلٍ, علمته خشونة الحياة, وقلة ذات اليد الصبر والوثوب في الوقت ذاته..
علمته الاعتماد على النفس والمغامرة في سبيل الشرف والعزِّ والكرامة وهتفت به:-





إذا غامرت في شرفٍ مروم
فـلا تقنـع بمـا دون النـجـوم
فطعم الموت في أمـرٍ حقيـرٍ
كطعم الموت في أمرٍ عظيـم




الشاعر يحدث قلبه الآن, بعد أن أصغى إليه من أول القصيدة, هو الآن يختطف زمام الأمر ليقطف ثمرة القول, ..
وثبة فارس, وروغة حصيف...





قطف الرجال القول عند نباتهوقطفت أنت القـول لمَّـا نـوَّرا



ما رأيك أيها القارئ في هذا الشاعر الذي استدرج عواطف الجماهير بالحديث عن همهم, حتى إذا قالوا بعد كل بيت صدقت, صدقت, صدقت, ... اختطف آخر القصيدة ليقول: -



أنا ابن جلا وطلاَّع الثنايا





وقد برمج الجمهور الغفير على كلمة صدقت, صدقت, صدقت....
عبقرية وذكاء, أم نبوغ وإلهام, أم توفيق من الله تعالى...
والذي أراه أنها الأخيرة بسنة الأولى والثانية.
يا قلب إن عالمي مُتحرر مُتفلت, لا تُقيِّده القيود, ولا تحده الحدود, ولم يتحجَّر أو يتجمَّد, ولم يتقوقع في بوتقته كما يقول المتنطعون.
إن هذا الكفاف الذي تحدثت عنه خيالي أنا, ولك خيالٌ آخر يصل بي إليه هذا العالم المندفع

وأنا ما عاد بي إلا تغرق الروح في لذاتها

ابتليت بشظف العيش فصبرت والحمد لله, هل ترى إذا فتحت عليَّ الدنيا أستطيع الشكر؟؟!!
"ما الفقر أخشى عليكم, إنما أخشى أن تفتح الدنيا عليكم , فتنافسوها كما تنافسوها, فتهلككم كما أهلكتهم".

وأنا ما عاد بي إلا تغرق الروح في لذاتها

طبيعة الشعر وطبيعة الشاعر والفن والفنان عموماً التفلت, والفوضى, وعدم الانضباطية وتغير الرأي بين الفينة والأخرى.
بقي أخي القارئ الكريم الإشارة إلى الخيط الرفيع الذي يربط به الشاعر الكبير بين طرفي القصيدة (البدع والرد) والذي يبين الاتحاد الخفي لموضوعها.
فهو يتحدث في البدع بلسان قومه عن همٍ مشتركٍ بوضوحٍ وصراحة.
ثم يتحدث في الرد بلسان حاله عن همٍ يخصه في الظاهر ويكاد ينطبق على قومه فرداً فرداً.
وكأنه يقول ما ذاك الهم المطروق في البدع إلا أباً روحياً ونموذجاً واضحاً ومشتركاً لهمومنا المتعددة.
هذه قراءة في قصيدة (خط الجنوب) للشاعر الدكتور عبد الواحد الزهراني, آمل أن تكون قد أتت على بعض مما يهدف إليه الشاعر حفظه الله, مع يقيني أن جمال النص الأدبي في تعدد قراءاته ولعل غيري قد قرأه قراءة مختلفة.
شكري وتقديري للشاعر الكريم, وعذري منه ومن القراء الكرام إن نَدَّ قلم أو شَطَّ تعبير.

"وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب".