ريحانة شمران
01-03-2022, 01:29 AM
يهطل البارود..وتميل السنابل !
https://lh6.ggpht.com/-x4qF4UFi3RQ/ThAkOD-RKmI/AAAAAAAAQak/MEDJlKcWeyo/DividersFlowers0700-debrujaMar_thumb%25255B1%25255D.gif
https://j.top4top.io/p_2193fdx951.jpeg
للكاتب/ هزاع عبدالرحمن مجبر آل خطاب الشمراني
من خلال الثقب التي خلفّته طلقات المدرعة الخفيفة التابعة للجيش الأمريكي
في جدار منزلنا كنت أسترق النظر إلى ” أسماء ” وهي خارجة لتزيل بمكنستها
المصنوعة من الخوص آثار الطلقات الفارغة من أمام منزلهم ومنزلنا , أترقب
لحظة هروب شعرها الأحمر من تحت الغطاء السماوي الفاتح , حبات الغبار كانت
أوفر حظاً مني , تحط بسلام على كفيها وتنام في مسامها , أمتص السيجارة
قهراً , التمركز الخفي والتلصص لم يسعفاني كثيراً , فالدخان المندلع من
سيجارتي كان يفضحني عند تصاعده إلى الأعلى , تلمحني , إلا أنها تفتعل
تجاهلي كما كانت تفعل ونحن نلهو في فناء منزلهم المتهالك .
جلبة شديدة في فناء منزلنا , أمي تقذفني بحصيات صغيرة وتندد بكلماتها
المعهودة ( يا عديم التربية ) لا تتلصص فهذا لا يجوز , أقفز لها كطائر
الحناء الطنان , أقبل يدها وقدمها وأردد ( تباً لأبي الذي مات وتركك
وحيدة ) , لم تنبس بشيء , طأطأت رأسها ومال فمها بابتسامة , لعنتني ودخلت
تًعد الغداء لليتيم النائم على حصير أكلت الأرضة ثلاثة أرباعه .
الشمس تشق طريقها إلى المطبخ من صدعٍ في سقف المنزل , تتزحلق الأتربة
المعلقة في الهواء على خيوط الشمس , كانت حركتنا تزيد من جمالها حين يهتز خيط الشمس لمرور أحدنا .
دائماً كنت أترقب لحظات صفو أمي لطرح سؤالي المتكرر ( كيف مات أبي ؟ ) ,
بيد أنها لا تكف عن تغيير الحديث لتهاجمني بطلبها الأزلي: أن أعمل أو أن
ألتحق بأحد الميليشيات المحسوبة على طالبان , تأففت من خبز (النان)
الممتلئ بالملح والفلفل الأسود , غداؤنا لم يتغير مذ 7 أعوام , إلا أنه
يحدث أحياناً اغتنامنا دجاجة يأكلها نصف الحي !
وضعت قدمي على عتبة الباب خارجاً للبحث عن عمل , وفي الحقيقة لم يكن هناك
خيارات بحسب الشهادة أو الشركات المترامية في كابل , لم يكن أمامي إلا أن
أنضم إلى طالبان أو أن أذهب إلى (هلمند) للعمل في تهريب المخدرات !
كان سبب بؤسي وعقدتي هي الحرب , نحن الأكثر تصدياً والأكثر معاشرة
للإسكندر الكبير و البريطانيين والروس والأمريكيين منذ أمدٍ بعيد , وفي
كل عقد يتبدل المحارب , ذهبت بنا مناحي الحياة إلى تقسيمات وفرقة , حتى
الحروب الأهلية اجتاحت ما بقي من معالم التمدن البسيط .
أمي وأخي , أسماء وأنا , الحياة والفقر , حروب الإبادة , المروحيات
والقصف , الأشلاء والرؤوس المبتورة , منزلٌ تراه اليوم تأكد بأن تحفظ
الطريق إليه جيداً .. لأنك لن تجده غدا .عقلي كان يعمل مثل حلابات
الأبقار , يُفكر حتى يمتلئ زبداً ,بعدها أعلم جيداً أنني سأنام أمام الثقب إياه .
صُفارة الإنذار تزف المأساة مرةً أخرى , (وقوع الخطر) , استترت ببقايا
شجرة وأنا أنظر للناس كالفئران تفرّ إلى جحورها , أراهم كجواميس (التيتل)
حين يغير أحد السنوريات على القطيع , وقتها يبدأ حديث نفسي .. ليت العدو
يفهم كما يفهم الطائر الجارح , أن فريسته التي رأته وانقلبت على ظهرها ,
فردت جناحيها في تراخ وسكتت في موت كاذب ليست إلا حيلة توفر بها الدفاع عن نفسها .
صُفارة أخرى تقترب إلى أذني من جديد بيد أن هذه الصفارة تدنو بشكل كبير
وصوتها يتضخم , دسست عيني بين رمشيّ وذقني ينام على كفي , أرتطم صاروخ
بسوق الخضار تطايرت الجثث في السوق وأختلط الدم بالطماطم , و تيتم جيل
جديد , ونوبات البكاء أخذت تطوف الأرجاء كالعادة . بعدها بدقيقة يعود
الناس للشراء من الأماكن الشبه سليمة من جديد .
حطّت على شفتاي الرمال المحيطة بمكان الانفجار وكأني أتذوق السكاكر
الأمريكية بطريقة غير مهذبة . دلفت إلى صديقي بشير حكمت , يسكن طرف
البلدة وحيداً , أحد أشهر المجاهدين في البلدة , استقبلني من على كرسيه
المتحرك البدائي الصنع , فقد قدميه بسبب لغم أرضي مضاد للأفراد زرع
بالدسيسة على قارعة الطريق المؤدي إلى منزل عمه آية الله أحمد , يستر
فخذيه بطانية خضراء داكنة , وفي فمه ماصٌ مبرومٌ من الورق المقوى , يمسك
بإبهامه وسبابته اليُسرى قصديراً أخذه من صناديق الرصاص , ويشعل تحت
القصدير ناراً من قداحة عتيقة , على صدر القصدير كرة صغيرة سوداء , بفعل
الحرارة خرج منها دخانٌ ضارب للزرقة , كان منهمكاً في تعاطي الأفيون الأسود .
لم يعجبني في بشير سوى خبراته فقد قضى عمره بين الحركات الجهادية وطرد
الخونة , كان يُشبع قهري وحقدي على المحتلين , كلامه يأخذني من تلابيبي
ويقذف بي في الخندق المجاور له , يقصّ عليّ بطولاته وبطولات من أعرفهم من
الذين استشهدوا قبله , تلك الأحاديث كانت بمثابة الترياق , تتدحرج إلى
قلبي فأبكي , وتقفز إلى عقلي فأرتحل إلى المعركة ( مراقبة أسماء ) واللا معركة ( نومي بدون أسماء) .
سألته العمل عند أحد أصدقائه في البلدة , سخر مني كثيراً ونصحني بالذهاب
إلى هلمند أو قندهار أو اروزغان أو فراه أو زابول للعمل في تهريب المخدرات وأخذ يضحك ….
أراح نفسه بنفثه قوية خرج منها الدخان والريق , أتبعها بكحة قوية تنبئ عن
بناء مملكة عظيمة من الشوائب في قصبته الهوائية , ارتجفت شفتاه ثم أشاح
بوجهه إلى أعلى إلا أن دمعته سالت بكل هدوء على خده , غيّر مسارها أخدود
ممتد من خده الأيسر إلى شحمة أُذنه ثم مضت في طريقها لتغسل ذقنه .
علِمتُ أنه تذّكر زوجته وطفليه , فهو لا ينفك أبداً عن تذكرهم بعد كل رحلة وهمية على طبق فضي , في ضيافة الأفيون !
أغتصبها 5 جنود تتابعاً من الروس أمامه وعلى مرأى من أطفاله , علقوا
جسدها من قدمها اليمنى في سقف المنزل وأخذوا يرمونها بالرصاص حتى ماتت ,
كانوا يُعطون الرشاش إلى أحد أطفالها ويقولون له أقتلها .. لكي نُطلق
سراح أبيك وأخيك !! رفض بشدة وهو يُحدّث أمه .. ماما أهربي ..اهربي أنا
سأحميك ! صفعه الروسي ببسطاره ذو القطعة الحديدة الغليظة على وجهه ..
أطلق عليه 30 طلقة جعلت جسم الصغير كــ غربال العطارين . حاول الصغير
الآخر حماية أخيه إلا أنه وجد مؤخرة البندقية ملتصقة بجمجمته الهشة . خر بقرب أخيه عند شجرة السدر خلف المنزل .
بكُمّ قميصه المرقع مسح دمعاته المؤلمة , و النهار يركض إلى الغسق , سربٌ
من العصافير يطوف المنزل , لغة التخاطب باتت جلية , الأُمهات تُبشر صغارها بصيدٍ ثمين ,
(( صوت حاد تطلقه صغار العصافير وهي تدعوا أُمهاتها أثاره كثيراً ليعود
للبكاء ولكن هذه المرة كانت منطلقة غير محبوسة ولا صامته ! ))
وبعد سعال كثير ودموع مسكوبة وتيارات أحلام سألني بشير : تبحث عن عمل يا توفيق خان ؟!
دفع عربته متجهاً إلى باب المنزل , أردف وقسمات وجهه تزدريني : هل يبحث أحد عن عمل وأرضه مُحتّله !!
أمال نفسه ومدّ يده المتزاحمة بالتجاعيد والعروق البارزة إلى الأرض , حفر
قليلاً وأخرج قُصاصة ثم عاد إلي , وضع الورقة بين أصبعيه الوسطى والسبابة
, أخذتها بكل تطفل .. فتحتها وإذا بعنوان لأحد المنازل في ضواحي كابل الجنوبية .
اذهب إلى هذا الرجل وقل له ( بشتون بشتون بشتون الله ) ! سيقول لك ( والطاجيك ) قل له (لا يحبهم الله!)
عُدتُ إلى بيتي مُسرعاً , كانت أُمي شديدة التوتر لغيابي ليلاً , فالخارج
ليلاً ( غازياً أو طالب حاجة ) كالذي يوقد ناره فلما أضاءت ما حوله ذهب
حضر التجوال بأحلامهم وبـنورهم وتركهم في ظلماتٍ يعمهون .. ( لا مرد له
إلا السجون ) , عواء الكلاب كان بمثابة موسيقى بشتونية قديمة , وتطاير
قصاصات الجرائد في متاهات الحي نذير شؤم لصباح اليوم التالي ! ــ ـــ ـــ
عصفورٌ على جيد المنزل يُغني أُغنية صباحية عاطفية ..
( يا عديم التربية ) !! .. صحوتُ مفزوعاً .. أمي !!! وبخطوات مسرعة أخذت
تدور حول نفسها , تنزل وترتفع , تبحث في الأرض عن أداة للعقاب الرادع
فالحصيات لم تعد تجدي نفعاً , التقطت كأس الماء المعدني الساكن فوق الزير
, وفي الواقع لم يكن سوى علبة أناناس ماركة ( مالينج الصينية ) سرقتُه من
السوق قبل شهر تقريباً , ولأننا نحن الأفغان نجيد استخدام الأشياء
الفارغة كبعض العقول مثلاً ! , فإننا نستخدمها لشرب الماء والمرارة والنكد مختلطة بطعم الصدأ الفاره ! .
رجمتني وكأنها تقيم حد الزنا على امرأة محصنة .تمايلت بجذعي وقفزت إليها
مقبّلا ليديها وجبينها .فزِعت حين اقتربت منها .(مابال عينك يا توفيق ؟)
, اقتربت أكثر وأخذت تلامس وجهي بيدها الطاهرة تتفحصني بنفس الطريقة التي
يفعلها الأطباء مع الملوك , ولكنها لم تجد سوى دائرة خلفها النوم وعيني خاضعة للترقب
استأذنت أمي خارجاً , تصلّبت على الباب وهي رافعة يديها إلى السماء تدعوا
لي بالتوفيق،سارت قدماي ثلاث خطواتٍ فقط , وقلبي معلقٌ ما بين تلابيب
وترقوة ,, التردد يُثني عزيمتي , والإجابات التي أملكها لربّ العمل
الجديد أكاد أن أتفوه بها لكل من كان يريد أن يقرئني السلام , كنت رافضاً
للتجنيد وتهريب المخدرات وللأسف أنني مُقتنع تماماً أنه لا يوجد عمل غيره , وأنا لا أستطيع فعل أيٌ منها .
في خضم مقاومتي للشلل الذي تسرب إلى قدمي , شدني صرير الباب المقابل
لمنزلنا , ألتفت بجسدي كاملاً فإذا بالصدفة التي لو ذهبتُ للسحرة
والمشعوذين لن تأتي كما أُريد , أسماء تخرج وهي كالغيمة الملتحفة بالسماء
, وكعادة قتلها لي , شذرات من شعرها الأحمر تستريح فوق كتفها .
سارت ملتصقة بالجدار الطيني , خطواتها صامته واحتكاك القماش بالجدار
كالذي أفنى يومه بتمزيق الصحف المحلية , ولأول مرة أستجمع قواي وأسيطر
على عقلي قبل أن يفر إلى حانةِ غزله , نطقتُ أسمها علانية ! (أسماء .. طاب صباحك !)
أجابت وهي تسير مسرعة إلى شرق البلدة , (صباح الخير توفيق..)
( يا أسماء ).. سألتها, وهي تزيد من سرعتها وكأنها تخاف من العيون التي
تُصدر الإشاعات .صدحت بصوت يشبه صوت قائد الجيش الذي يزرع المعنويات في
قلوب الجند , (أسماء توقفي !)توقفت بأمرٍ إجباري بعد أن اعترضت الطريق !
(أسماء , أنا ذاهب للبحث عن عمل , ولن أعود إلا وأنا أملك المال الكافي لـ…. لــ ..لــ .. لإسعادنا .. !)
قاطعتني بعد أن أخذت أنفاسها …. ( يوفقك الله !)أمالت كتفها وهي تهِّمُ
بالسير مجدداً .. و بصوت عاطفي وهدوء يتلبس القوام .. نبست وهي لاتكاد :
( توفيق إذا أردت أن تخبرني بأنك ذاهبٌ لأجلي ..فتذكر بأنه لن يسعدني ذلك , إلا إذا طردت العدو من أرضنا !! )
للكاتب/ هزاع عبدالرحمن مجبر آل خطاب الشمراني _ منطقة الرياض
https://lh6.ggpht.com/-x4qF4UFi3RQ/ThAkOD-RKmI/AAAAAAAAQak/MEDJlKcWeyo/DividersFlowers0700-debrujaMar_thumb%25255B1%25255D.gif
https://lh6.ggpht.com/-x4qF4UFi3RQ/ThAkOD-RKmI/AAAAAAAAQak/MEDJlKcWeyo/DividersFlowers0700-debrujaMar_thumb%25255B1%25255D.gif
https://j.top4top.io/p_2193fdx951.jpeg
للكاتب/ هزاع عبدالرحمن مجبر آل خطاب الشمراني
من خلال الثقب التي خلفّته طلقات المدرعة الخفيفة التابعة للجيش الأمريكي
في جدار منزلنا كنت أسترق النظر إلى ” أسماء ” وهي خارجة لتزيل بمكنستها
المصنوعة من الخوص آثار الطلقات الفارغة من أمام منزلهم ومنزلنا , أترقب
لحظة هروب شعرها الأحمر من تحت الغطاء السماوي الفاتح , حبات الغبار كانت
أوفر حظاً مني , تحط بسلام على كفيها وتنام في مسامها , أمتص السيجارة
قهراً , التمركز الخفي والتلصص لم يسعفاني كثيراً , فالدخان المندلع من
سيجارتي كان يفضحني عند تصاعده إلى الأعلى , تلمحني , إلا أنها تفتعل
تجاهلي كما كانت تفعل ونحن نلهو في فناء منزلهم المتهالك .
جلبة شديدة في فناء منزلنا , أمي تقذفني بحصيات صغيرة وتندد بكلماتها
المعهودة ( يا عديم التربية ) لا تتلصص فهذا لا يجوز , أقفز لها كطائر
الحناء الطنان , أقبل يدها وقدمها وأردد ( تباً لأبي الذي مات وتركك
وحيدة ) , لم تنبس بشيء , طأطأت رأسها ومال فمها بابتسامة , لعنتني ودخلت
تًعد الغداء لليتيم النائم على حصير أكلت الأرضة ثلاثة أرباعه .
الشمس تشق طريقها إلى المطبخ من صدعٍ في سقف المنزل , تتزحلق الأتربة
المعلقة في الهواء على خيوط الشمس , كانت حركتنا تزيد من جمالها حين يهتز خيط الشمس لمرور أحدنا .
دائماً كنت أترقب لحظات صفو أمي لطرح سؤالي المتكرر ( كيف مات أبي ؟ ) ,
بيد أنها لا تكف عن تغيير الحديث لتهاجمني بطلبها الأزلي: أن أعمل أو أن
ألتحق بأحد الميليشيات المحسوبة على طالبان , تأففت من خبز (النان)
الممتلئ بالملح والفلفل الأسود , غداؤنا لم يتغير مذ 7 أعوام , إلا أنه
يحدث أحياناً اغتنامنا دجاجة يأكلها نصف الحي !
وضعت قدمي على عتبة الباب خارجاً للبحث عن عمل , وفي الحقيقة لم يكن هناك
خيارات بحسب الشهادة أو الشركات المترامية في كابل , لم يكن أمامي إلا أن
أنضم إلى طالبان أو أن أذهب إلى (هلمند) للعمل في تهريب المخدرات !
كان سبب بؤسي وعقدتي هي الحرب , نحن الأكثر تصدياً والأكثر معاشرة
للإسكندر الكبير و البريطانيين والروس والأمريكيين منذ أمدٍ بعيد , وفي
كل عقد يتبدل المحارب , ذهبت بنا مناحي الحياة إلى تقسيمات وفرقة , حتى
الحروب الأهلية اجتاحت ما بقي من معالم التمدن البسيط .
أمي وأخي , أسماء وأنا , الحياة والفقر , حروب الإبادة , المروحيات
والقصف , الأشلاء والرؤوس المبتورة , منزلٌ تراه اليوم تأكد بأن تحفظ
الطريق إليه جيداً .. لأنك لن تجده غدا .عقلي كان يعمل مثل حلابات
الأبقار , يُفكر حتى يمتلئ زبداً ,بعدها أعلم جيداً أنني سأنام أمام الثقب إياه .
صُفارة الإنذار تزف المأساة مرةً أخرى , (وقوع الخطر) , استترت ببقايا
شجرة وأنا أنظر للناس كالفئران تفرّ إلى جحورها , أراهم كجواميس (التيتل)
حين يغير أحد السنوريات على القطيع , وقتها يبدأ حديث نفسي .. ليت العدو
يفهم كما يفهم الطائر الجارح , أن فريسته التي رأته وانقلبت على ظهرها ,
فردت جناحيها في تراخ وسكتت في موت كاذب ليست إلا حيلة توفر بها الدفاع عن نفسها .
صُفارة أخرى تقترب إلى أذني من جديد بيد أن هذه الصفارة تدنو بشكل كبير
وصوتها يتضخم , دسست عيني بين رمشيّ وذقني ينام على كفي , أرتطم صاروخ
بسوق الخضار تطايرت الجثث في السوق وأختلط الدم بالطماطم , و تيتم جيل
جديد , ونوبات البكاء أخذت تطوف الأرجاء كالعادة . بعدها بدقيقة يعود
الناس للشراء من الأماكن الشبه سليمة من جديد .
حطّت على شفتاي الرمال المحيطة بمكان الانفجار وكأني أتذوق السكاكر
الأمريكية بطريقة غير مهذبة . دلفت إلى صديقي بشير حكمت , يسكن طرف
البلدة وحيداً , أحد أشهر المجاهدين في البلدة , استقبلني من على كرسيه
المتحرك البدائي الصنع , فقد قدميه بسبب لغم أرضي مضاد للأفراد زرع
بالدسيسة على قارعة الطريق المؤدي إلى منزل عمه آية الله أحمد , يستر
فخذيه بطانية خضراء داكنة , وفي فمه ماصٌ مبرومٌ من الورق المقوى , يمسك
بإبهامه وسبابته اليُسرى قصديراً أخذه من صناديق الرصاص , ويشعل تحت
القصدير ناراً من قداحة عتيقة , على صدر القصدير كرة صغيرة سوداء , بفعل
الحرارة خرج منها دخانٌ ضارب للزرقة , كان منهمكاً في تعاطي الأفيون الأسود .
لم يعجبني في بشير سوى خبراته فقد قضى عمره بين الحركات الجهادية وطرد
الخونة , كان يُشبع قهري وحقدي على المحتلين , كلامه يأخذني من تلابيبي
ويقذف بي في الخندق المجاور له , يقصّ عليّ بطولاته وبطولات من أعرفهم من
الذين استشهدوا قبله , تلك الأحاديث كانت بمثابة الترياق , تتدحرج إلى
قلبي فأبكي , وتقفز إلى عقلي فأرتحل إلى المعركة ( مراقبة أسماء ) واللا معركة ( نومي بدون أسماء) .
سألته العمل عند أحد أصدقائه في البلدة , سخر مني كثيراً ونصحني بالذهاب
إلى هلمند أو قندهار أو اروزغان أو فراه أو زابول للعمل في تهريب المخدرات وأخذ يضحك ….
أراح نفسه بنفثه قوية خرج منها الدخان والريق , أتبعها بكحة قوية تنبئ عن
بناء مملكة عظيمة من الشوائب في قصبته الهوائية , ارتجفت شفتاه ثم أشاح
بوجهه إلى أعلى إلا أن دمعته سالت بكل هدوء على خده , غيّر مسارها أخدود
ممتد من خده الأيسر إلى شحمة أُذنه ثم مضت في طريقها لتغسل ذقنه .
علِمتُ أنه تذّكر زوجته وطفليه , فهو لا ينفك أبداً عن تذكرهم بعد كل رحلة وهمية على طبق فضي , في ضيافة الأفيون !
أغتصبها 5 جنود تتابعاً من الروس أمامه وعلى مرأى من أطفاله , علقوا
جسدها من قدمها اليمنى في سقف المنزل وأخذوا يرمونها بالرصاص حتى ماتت ,
كانوا يُعطون الرشاش إلى أحد أطفالها ويقولون له أقتلها .. لكي نُطلق
سراح أبيك وأخيك !! رفض بشدة وهو يُحدّث أمه .. ماما أهربي ..اهربي أنا
سأحميك ! صفعه الروسي ببسطاره ذو القطعة الحديدة الغليظة على وجهه ..
أطلق عليه 30 طلقة جعلت جسم الصغير كــ غربال العطارين . حاول الصغير
الآخر حماية أخيه إلا أنه وجد مؤخرة البندقية ملتصقة بجمجمته الهشة . خر بقرب أخيه عند شجرة السدر خلف المنزل .
بكُمّ قميصه المرقع مسح دمعاته المؤلمة , و النهار يركض إلى الغسق , سربٌ
من العصافير يطوف المنزل , لغة التخاطب باتت جلية , الأُمهات تُبشر صغارها بصيدٍ ثمين ,
(( صوت حاد تطلقه صغار العصافير وهي تدعوا أُمهاتها أثاره كثيراً ليعود
للبكاء ولكن هذه المرة كانت منطلقة غير محبوسة ولا صامته ! ))
وبعد سعال كثير ودموع مسكوبة وتيارات أحلام سألني بشير : تبحث عن عمل يا توفيق خان ؟!
دفع عربته متجهاً إلى باب المنزل , أردف وقسمات وجهه تزدريني : هل يبحث أحد عن عمل وأرضه مُحتّله !!
أمال نفسه ومدّ يده المتزاحمة بالتجاعيد والعروق البارزة إلى الأرض , حفر
قليلاً وأخرج قُصاصة ثم عاد إلي , وضع الورقة بين أصبعيه الوسطى والسبابة
, أخذتها بكل تطفل .. فتحتها وإذا بعنوان لأحد المنازل في ضواحي كابل الجنوبية .
اذهب إلى هذا الرجل وقل له ( بشتون بشتون بشتون الله ) ! سيقول لك ( والطاجيك ) قل له (لا يحبهم الله!)
عُدتُ إلى بيتي مُسرعاً , كانت أُمي شديدة التوتر لغيابي ليلاً , فالخارج
ليلاً ( غازياً أو طالب حاجة ) كالذي يوقد ناره فلما أضاءت ما حوله ذهب
حضر التجوال بأحلامهم وبـنورهم وتركهم في ظلماتٍ يعمهون .. ( لا مرد له
إلا السجون ) , عواء الكلاب كان بمثابة موسيقى بشتونية قديمة , وتطاير
قصاصات الجرائد في متاهات الحي نذير شؤم لصباح اليوم التالي ! ــ ـــ ـــ
عصفورٌ على جيد المنزل يُغني أُغنية صباحية عاطفية ..
( يا عديم التربية ) !! .. صحوتُ مفزوعاً .. أمي !!! وبخطوات مسرعة أخذت
تدور حول نفسها , تنزل وترتفع , تبحث في الأرض عن أداة للعقاب الرادع
فالحصيات لم تعد تجدي نفعاً , التقطت كأس الماء المعدني الساكن فوق الزير
, وفي الواقع لم يكن سوى علبة أناناس ماركة ( مالينج الصينية ) سرقتُه من
السوق قبل شهر تقريباً , ولأننا نحن الأفغان نجيد استخدام الأشياء
الفارغة كبعض العقول مثلاً ! , فإننا نستخدمها لشرب الماء والمرارة والنكد مختلطة بطعم الصدأ الفاره ! .
رجمتني وكأنها تقيم حد الزنا على امرأة محصنة .تمايلت بجذعي وقفزت إليها
مقبّلا ليديها وجبينها .فزِعت حين اقتربت منها .(مابال عينك يا توفيق ؟)
, اقتربت أكثر وأخذت تلامس وجهي بيدها الطاهرة تتفحصني بنفس الطريقة التي
يفعلها الأطباء مع الملوك , ولكنها لم تجد سوى دائرة خلفها النوم وعيني خاضعة للترقب
استأذنت أمي خارجاً , تصلّبت على الباب وهي رافعة يديها إلى السماء تدعوا
لي بالتوفيق،سارت قدماي ثلاث خطواتٍ فقط , وقلبي معلقٌ ما بين تلابيب
وترقوة ,, التردد يُثني عزيمتي , والإجابات التي أملكها لربّ العمل
الجديد أكاد أن أتفوه بها لكل من كان يريد أن يقرئني السلام , كنت رافضاً
للتجنيد وتهريب المخدرات وللأسف أنني مُقتنع تماماً أنه لا يوجد عمل غيره , وأنا لا أستطيع فعل أيٌ منها .
في خضم مقاومتي للشلل الذي تسرب إلى قدمي , شدني صرير الباب المقابل
لمنزلنا , ألتفت بجسدي كاملاً فإذا بالصدفة التي لو ذهبتُ للسحرة
والمشعوذين لن تأتي كما أُريد , أسماء تخرج وهي كالغيمة الملتحفة بالسماء
, وكعادة قتلها لي , شذرات من شعرها الأحمر تستريح فوق كتفها .
سارت ملتصقة بالجدار الطيني , خطواتها صامته واحتكاك القماش بالجدار
كالذي أفنى يومه بتمزيق الصحف المحلية , ولأول مرة أستجمع قواي وأسيطر
على عقلي قبل أن يفر إلى حانةِ غزله , نطقتُ أسمها علانية ! (أسماء .. طاب صباحك !)
أجابت وهي تسير مسرعة إلى شرق البلدة , (صباح الخير توفيق..)
( يا أسماء ).. سألتها, وهي تزيد من سرعتها وكأنها تخاف من العيون التي
تُصدر الإشاعات .صدحت بصوت يشبه صوت قائد الجيش الذي يزرع المعنويات في
قلوب الجند , (أسماء توقفي !)توقفت بأمرٍ إجباري بعد أن اعترضت الطريق !
(أسماء , أنا ذاهب للبحث عن عمل , ولن أعود إلا وأنا أملك المال الكافي لـ…. لــ ..لــ .. لإسعادنا .. !)
قاطعتني بعد أن أخذت أنفاسها …. ( يوفقك الله !)أمالت كتفها وهي تهِّمُ
بالسير مجدداً .. و بصوت عاطفي وهدوء يتلبس القوام .. نبست وهي لاتكاد :
( توفيق إذا أردت أن تخبرني بأنك ذاهبٌ لأجلي ..فتذكر بأنه لن يسعدني ذلك , إلا إذا طردت العدو من أرضنا !! )
للكاتب/ هزاع عبدالرحمن مجبر آل خطاب الشمراني _ منطقة الرياض
https://lh6.ggpht.com/-x4qF4UFi3RQ/ThAkOD-RKmI/AAAAAAAAQak/MEDJlKcWeyo/DividersFlowers0700-debrujaMar_thumb%25255B1%25255D.gif