بحر الود
10-28-2023, 03:40 AM
الوجه الآخر للعُزلة
منال محمد الخميسي
https://static.vecteezy.com/system/resources/previews/028/689/128/large_2x/tranquil-scene-sunset-reflecting-in-calm-waters-generated-by-ai-photo.jpg
تتوقُ النفس إلى الابتعاد قليلًا عن زحام الحياة واللجوء إلى خلوةٍ هادئةٍ مع الذات، وعُزلة لذيذة مع الروح، تفوح منها رائحة الطُرق الداخلية في الإنسان، المرتوية بالذكريات الجانحة والأفكار الجامحة والتأمُّل الساحر للكون الداخلي في عُمق الروح، لحظات عشق روحي بجانب وميض الشموع المتمايل ونغم الموسيقى الهادئ وترانيم الفكر الصامت.
وصفَ جوهرَ تلك العزلة الجميلة الراهبُ والكاتب توماس ميرتون في كتابه «خواطر في العزلة» حين قال: «لا نستطيع أن نرى الأمور بوضوح إلا إذا ابتعدنا قليلًا» فالابتعاد قليلًا يصنع الإنسان من جديد، فالعزلة تساعد على إعادة تشكيل الذات واكتشافها وضبط بنائها، وهي ما أطلق عليها فونغ مسمى: (اللحظات الوجودية)؛ «وهي ومضات عقلية من وضوح الرؤية يمكن أن تحدث أثناء العزلة التي تركّز على الداخل» في العزلة يعيش الإنسان الحياة الحقيقية الداخلية التي لا يراها غيره، فهناك حجراتٌ في الذات لا تُضاء إلّا في السكون والانعزال البعيد جدًّا عن الضجيج الخارجي، في العزلة تُغلَق حواس الجسد وتُفتَح حواس القلب، فيرى الإنسان الوجود بعين قلبه، ويلمس ملامح الحياة بوعيه، ويفك طلاسم الكون بذكاء قلبه.
وبالرغم من جمال لحظات العزلة ودورها الهام في البناء الداخلي للإنسان إلا أنّ لها وجهًا آخرَ مُخيفًا، فحين تمتدُّ الوحدة وتتّسع تبدأ بالتهام الذات الإنسانية داخل أعماقها وعزل صاحبها عن المحيط الخارجي فتتحوّل إلى ماردٍ بشع يُدمّر كل شيء جميل داخل ذلك الإنسان الحائر الذي خُلق للتعايش والتفاعل مع بيئته فتسلخه تلك العزلة التوحدية من طبيعته البشرية التفاعلية، وتدفعه ليصبح غريبًا في عزلته، وكما قيل: «إن العزلة أمرٌ جيد، ولكنك تحتاج إلى شخصٍ ما لتخبره بأنَّ العزلة جيدة» فلا حياة كاملة دون مشاركة الآخر، ولا حياة واضحة دون البقاء وحيدًا مع الذات! الوحدة مريحةٌ إلى حدٍ ما، ولكن إن زادت حِدّة انعزالها ونفورها من الالتقاء بالناس قد تتحوّل إلى وحدةٍ مرضية محاطة بالقلق وفقدان الأمان والاكتئاب، وفي المقابل أن تكون اجتماعيًّا وتكوّن علاقات اجتماعية مُتشعّبة هو أمر لا بأس به، ولكنه سيضعك في مقدمة هيجان الحياة فتتلقّى صفعاتها المتتالية حتى تُكسر.
إذًا الإنسان بحاجة إلى الاتزان بين الحالتين، لا عزلة مستديمةً عن الحياة، ولا انفتاحاً كاملاً على الحياة، بمعنى ممارسة الحياة بذكاء اجتماعي والتفاعل باحترافية مُعتدلة؛ فلا تبخس فيها حق نفسك عليك، ولا تقصّر في حق محيطك عليك. العزلة لا تعني العيش وحيدًا بل تعني الحذر والانتقاء الجيد لمن يملأ حياتك ويشحنها بالفرح ويمتص منها الحزن،
فالكثير تجده مُزدحمًا بالبشر من حوله ومع ذلك هو يعيش الوحدة القاسية، يفتقد مَن يفهمه ويقدّر مشاعره ويُبرّر أخطاءه ويتفهّم عيوبه، فالإنسان بحاجة إلى الاحتواء بالعاطفة والارتواء بالحب والإحساس بالذات، وليس بحاجة إلى الكثرة المُزعجة والضجيج الخانق والزيف الاجتماعي.. قال تعالى في كتابه العظيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) خُلق البشر في كوكبٍ واحد ليتشاركوا الحياة ويتعارفوا ويتجانسوا ولم يُخلَقوا ليظل كل شخص في عالمه المُغلق وكوكبه الغامض! حتى الجنّة ممتلئة بالغُرف المتجاورة والأسِرّة المتقابلة والأصدقاء المُتحابين، وليست قصورًا متباعدةً وحدائقَ خاليةً وأرواحًا متنافرةً! فالعلامة الفارقة بين حالة العزلة وحالة الاجتماع هي (الانتقاء) فالاكتفاء بالذات لا يعني العيش وحيدًا، بل المقصود بها تقليص العلاقات وإحاطة نفسك بدائرة خاصة من النُخبة الصادقة معك والاكتفاء بهم عن كل العالم، فالوحدة إن زادت تُنهك الروح، وكثرة العلاقات إن زادت وتشعّبت تُهدر الوقت، لذلك خير الأمور هو الانتقاء والموازنة بين حق نفسك عليك بالبقاء بعيدًا عن ضجيج الحياة وصخبها، وحقها في الفرح مع من يُشبهها.
كم هي جميلة الحياة بقرب من نُحِب، فالعيش معهم هو إكسير الحياة وسبب لاستمرارها وملئها بأكاليل الشباب الدائم. لا تعِش الوحدة القارسة البرودة التي تجمّد مشاعرك ولا تُلقِ بنفسك في لهيب العلاقات الاجتماعية المُحترقة بالنفاق والمُشتعلة برماد المجاملات الاجتماعية الكاذبة، عِش حياتك المتوازنة والدافئة في وحدة اجتماعية فريدة.
******************************
منال محمد الخميسي
https://static.vecteezy.com/system/resources/previews/028/689/128/large_2x/tranquil-scene-sunset-reflecting-in-calm-waters-generated-by-ai-photo.jpg
تتوقُ النفس إلى الابتعاد قليلًا عن زحام الحياة واللجوء إلى خلوةٍ هادئةٍ مع الذات، وعُزلة لذيذة مع الروح، تفوح منها رائحة الطُرق الداخلية في الإنسان، المرتوية بالذكريات الجانحة والأفكار الجامحة والتأمُّل الساحر للكون الداخلي في عُمق الروح، لحظات عشق روحي بجانب وميض الشموع المتمايل ونغم الموسيقى الهادئ وترانيم الفكر الصامت.
وصفَ جوهرَ تلك العزلة الجميلة الراهبُ والكاتب توماس ميرتون في كتابه «خواطر في العزلة» حين قال: «لا نستطيع أن نرى الأمور بوضوح إلا إذا ابتعدنا قليلًا» فالابتعاد قليلًا يصنع الإنسان من جديد، فالعزلة تساعد على إعادة تشكيل الذات واكتشافها وضبط بنائها، وهي ما أطلق عليها فونغ مسمى: (اللحظات الوجودية)؛ «وهي ومضات عقلية من وضوح الرؤية يمكن أن تحدث أثناء العزلة التي تركّز على الداخل» في العزلة يعيش الإنسان الحياة الحقيقية الداخلية التي لا يراها غيره، فهناك حجراتٌ في الذات لا تُضاء إلّا في السكون والانعزال البعيد جدًّا عن الضجيج الخارجي، في العزلة تُغلَق حواس الجسد وتُفتَح حواس القلب، فيرى الإنسان الوجود بعين قلبه، ويلمس ملامح الحياة بوعيه، ويفك طلاسم الكون بذكاء قلبه.
وبالرغم من جمال لحظات العزلة ودورها الهام في البناء الداخلي للإنسان إلا أنّ لها وجهًا آخرَ مُخيفًا، فحين تمتدُّ الوحدة وتتّسع تبدأ بالتهام الذات الإنسانية داخل أعماقها وعزل صاحبها عن المحيط الخارجي فتتحوّل إلى ماردٍ بشع يُدمّر كل شيء جميل داخل ذلك الإنسان الحائر الذي خُلق للتعايش والتفاعل مع بيئته فتسلخه تلك العزلة التوحدية من طبيعته البشرية التفاعلية، وتدفعه ليصبح غريبًا في عزلته، وكما قيل: «إن العزلة أمرٌ جيد، ولكنك تحتاج إلى شخصٍ ما لتخبره بأنَّ العزلة جيدة» فلا حياة كاملة دون مشاركة الآخر، ولا حياة واضحة دون البقاء وحيدًا مع الذات! الوحدة مريحةٌ إلى حدٍ ما، ولكن إن زادت حِدّة انعزالها ونفورها من الالتقاء بالناس قد تتحوّل إلى وحدةٍ مرضية محاطة بالقلق وفقدان الأمان والاكتئاب، وفي المقابل أن تكون اجتماعيًّا وتكوّن علاقات اجتماعية مُتشعّبة هو أمر لا بأس به، ولكنه سيضعك في مقدمة هيجان الحياة فتتلقّى صفعاتها المتتالية حتى تُكسر.
إذًا الإنسان بحاجة إلى الاتزان بين الحالتين، لا عزلة مستديمةً عن الحياة، ولا انفتاحاً كاملاً على الحياة، بمعنى ممارسة الحياة بذكاء اجتماعي والتفاعل باحترافية مُعتدلة؛ فلا تبخس فيها حق نفسك عليك، ولا تقصّر في حق محيطك عليك. العزلة لا تعني العيش وحيدًا بل تعني الحذر والانتقاء الجيد لمن يملأ حياتك ويشحنها بالفرح ويمتص منها الحزن،
فالكثير تجده مُزدحمًا بالبشر من حوله ومع ذلك هو يعيش الوحدة القاسية، يفتقد مَن يفهمه ويقدّر مشاعره ويُبرّر أخطاءه ويتفهّم عيوبه، فالإنسان بحاجة إلى الاحتواء بالعاطفة والارتواء بالحب والإحساس بالذات، وليس بحاجة إلى الكثرة المُزعجة والضجيج الخانق والزيف الاجتماعي.. قال تعالى في كتابه العظيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) خُلق البشر في كوكبٍ واحد ليتشاركوا الحياة ويتعارفوا ويتجانسوا ولم يُخلَقوا ليظل كل شخص في عالمه المُغلق وكوكبه الغامض! حتى الجنّة ممتلئة بالغُرف المتجاورة والأسِرّة المتقابلة والأصدقاء المُتحابين، وليست قصورًا متباعدةً وحدائقَ خاليةً وأرواحًا متنافرةً! فالعلامة الفارقة بين حالة العزلة وحالة الاجتماع هي (الانتقاء) فالاكتفاء بالذات لا يعني العيش وحيدًا، بل المقصود بها تقليص العلاقات وإحاطة نفسك بدائرة خاصة من النُخبة الصادقة معك والاكتفاء بهم عن كل العالم، فالوحدة إن زادت تُنهك الروح، وكثرة العلاقات إن زادت وتشعّبت تُهدر الوقت، لذلك خير الأمور هو الانتقاء والموازنة بين حق نفسك عليك بالبقاء بعيدًا عن ضجيج الحياة وصخبها، وحقها في الفرح مع من يُشبهها.
كم هي جميلة الحياة بقرب من نُحِب، فالعيش معهم هو إكسير الحياة وسبب لاستمرارها وملئها بأكاليل الشباب الدائم. لا تعِش الوحدة القارسة البرودة التي تجمّد مشاعرك ولا تُلقِ بنفسك في لهيب العلاقات الاجتماعية المُحترقة بالنفاق والمُشتعلة برماد المجاملات الاجتماعية الكاذبة، عِش حياتك المتوازنة والدافئة في وحدة اجتماعية فريدة.
******************************