الحمدان
12-29-2024, 07:31 PM
القناة الرسمية للشيخ أ.د. سعد الخثلان:
فوائد منتقاة من برنامج مجالس الفقه لفضيلة الشيخ أ.د سعد بن تركي الخثلان وفقه الله - الاثنين ٢٤-٦-١٤٤٦هـ (مقدمة عن تاريخ الفقه):
١/الفقه له مقام عظيم وهو من أعظم العلوم ومن أشرفها والناس محتاجون إليه حاجة ماسة؛ ولهذا عندما تستمع لأي برنامج إفتاء تجد أن معظم أسئلة الناس في الفقه، يسألون عن مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والبيوع والمعاملات والأطعمة والنذور والأيمان ونحو ذلك، وهذا يبين لنا عظيم شأن الفقه.
٢/ الفقه معناه في اللغة إذا أطلق الفهم وحسن الإدراك والعلم والفطنة؛ ولهذا قال سبحانه {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} يعني لا تفهمون تسبيحهم.
-والفقه في صدر الإسلام يعني العلم بأحكام الدين كله وهذا يشمل علم العقيدة والتفسير والحديث وأحكام الفروع العملية والأخلاق والزهد؛ وهذا المعنى مأخوذ من النصوص الشرعية الكثيرة التي تدل على أن الفقه بمعناه العام أنه الفهم في الشريعة مطلقاً والعلم بأحكامها كلها كما في قول الله عز وجل:{وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا* نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، وفي قوله: "نضر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه". أخرجه الترمذي وأبو داود. وهذا هو الفقه الذي كان في صدر الإسلام.
٣/ بعد ذلك أصبح يطلق الفقه على معنى أخص خاصة في أواسط عهد التابعين يراد به معرفة الأحكام الشرعية العملية المستفاد من أدلتها التفصيلية -فقولنا معرفة أو العلم بالأحكام الشرعية العملية: هذا يدل على أن الفقه علم وله موضوع خاص وقواعد خاصة درسها الفقهاء في كتبهم.
-وقولنا معرفة أو العلم بالأحكام الشرعية: هذا يدل على أن أحكام الفقه أنها أحكام شرعية متلقاة بطريق السمع مأخوذة من الشرع وهو قيد في التعريف يخرج به الأحكام المتلقاة عن طريق العقل ونحو ذلك -العملية: هذا يعني أن الأحكام الفقهية تتعلق بأعمال الناس وأفعالهم في عباداتهم ومعاملاتهم اليومية وهو قيد في التعريف يخرج به الأحكام الاعتقادية والأخلاق والآداب فإنها ليست عملية في الغالب أو أنها تتعلق بالقلوب والسلوك لا بأعمال الأبدان -المكتسب او المستفاد من أدلتها التفصيلية: هذا يعني أن الأحكام لا تعد فقهاً إلا إذا كانت مستندة إلى أدلة الشرع مجتمعة كانت أم آحادًا فهذا هو معنى الفقه بمعناه الاصطلاحي الأخص.
٤/ الفرق بين الفقه وأصول الفقه:
أصول الفقه: هو أدلة الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد.
- فأدلة الفقه إجمالاً: مثل مصادر التشريع: الكتاب السنة الإجماع القياس.
-كيفية الاستفادة منها: فهناك العموم والخصوص والمطلق والمقيد ونحو ذلك.
-حال المستفيد: يعني المجتهد، ومعنى الاجتهاد، ومسائل الاجتهاد. بخلاف الفقه فقد تقدم تعريفه.
٥/ الفقه عند علماء الصدر الأول من الإسلام كما سبق مرادف لمعنى الشريعة الإسلامية؛ لأن الفقه بمعناه العام في صدر الإسلام يتناول أحكام الدين كله؛ ولهذا الإمام أبو حنيفة سمى كتابه الفقه الأكبر وهو في العقيدة فهو لا يختص فقط بالمسائل العملية، بل يشمل العقائد ويشمل الأحكام العملية ويشمل الآداب ويشمل الأخلاق ثم بعد ذلك خص هذا المصطلح (الفقه) عند المتأخرين بالعلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية وبهذا فإن الفقه بهذا المعنى يتفق مع الشريعة في كثير من الخصائص ويفترقان في أمور منها:
-أن الشريعة أعم من الفقه بمعناه الأخص؛ لأن الشريعة تشمل أحكام الدين كله اعتقادات كانت أو أخلاقاً أو آداباً أو أحكاماً عملية. أما الفقه فهو خاص بالأحكام العملية.
-أيضاً الشريعة كلها حق وصواب منزهة عن الخطأ أما الفقه فهو أحكام فقهية اجتهادية. والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ فإن أصاب وافق الشريعة وإن أخطأ خالفها. وهذا المجتهد مأجور على كل حال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". متفق عليه. -أيضاً الشريعة كاملة تامة ثابتة أكملها الله تعالى وأتمها للعباد. أما الفقه فهو متجدد ولا يزال الناس يحدث لهم من الأحكام الفقهية بقدر ما استجد في حياتهم من مسائل وأمور.
-أيضاً الشريعة تعتمد على الكتاب والسنة وتستمد منهما. أما الفقه بمعناه الاصطلاحي فيعتمد على الكتاب والسنة في المقدمة وبالدرجة الأولى ويعتمد أيضاً في كثير من أحكامه الفرعية الاجتهادية على أدلة الاستدلال الأخرى المعتبرة عند الفقهاء كالإجماع والقياس ونحو ذلك من الأدلة.
٦/ الفقه علم شريف من أجل علوم الشريعة قدراً وأسماها مكانة؛ وذلك أن الفقه علم بالأحكام الشرعية التي يتعبد المسلم بها ربه ويتعامل بها مع غيره من الناس فيؤدي العبادة كما أراد الله ويؤدي الحقوق والواجبات التي عليه ولا يستطيع المسلم أن يقيم أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج على الوجه الصحيح إلا بالتفقه في دين الله تعالى، ولا يستطيع أن يعرف ما يحل له من المعاملات وما يحرم عليه وما يجب للمتعاملين معه وما يجب له عليهم إلا بالتفقه في أحكام الشريعة فهو علم تمس الحاجة إليه لا يستغني عنه المسلم.
٧/ قد جاءت النصوص الشرعية ببيان فضل الفقه والترغيب فيه:
-كما في قول الله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافه فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". أخرجه البخاري ومسلم؛ وهذا يدل على أن الإنسان إذا كان يحب التفقه في الدين ويميل إلى التفقه في الدين ويحرص على الاستماع للفتاوى والاستماع للدروس وأن يتبصر في دين الله هذه أمارة على أنه أريد به الخير ان شاء الله تعالى.
-وأن من أعرض عن ذلك ولم يتفقه في الدين وأعرض فربما يفهم من ذلك أنه لم يرد به الخير.
والإمام مالك رحمه الله يقول: "إن الحكمة هي الفقه في دين الله" يعني في قول الله تعالى: {يؤت الحكمة من يشاء} قال الحكمة هي الفقه في دين الله، والعلم الحكمة، ونور يهدي الله به من يشاء، وليس بكثرة المسائل.
-وابن عباس رضي الله عنهما يقول في قول الله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} قال كونوا علماء فقهاء.
-والنبي عليه الصلاة والسلام دعا لابن عباس بالفقه في الدين قال: "اللهم فقهه في الدين".
-وأيضاً في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام:" تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
وهذا كله يدل على شرف الفقه في دين الله، والعلم بأحكام الحلال والحرام، وفهم الكتاب والسنة، وشرف الفقهاء العلماء وفضلهم.
٨/ الإمام أحمد جالس المحدثين كثيراً وانتفع بهم وأخذ عنهم الحديث حتى صار إماماً من أئمة الدين في الحديث، ولكن حين جالس الشافعي وأخذ عنه فقهه عرف مكانة الفقهاء وشهد له بالفضل حتى قال: كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: وما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالسته وهذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي، ثم قال الإمام أحمد: ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو الله للشافعي وأستغفر له، ولما لقي الإمام أحمد ابن الإمام الشافعي قال له: "ستة أدعو لهم عند السحر منهم أبوك" يعني الإمام الشافعي.
٩/ أئمة الإسلام كان عندهم الفقه عظيماً ويعظمون من كان فقيهاً باستنباط معاني النصوص الشرعية؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله قال: "فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام وعنوا بضبط الحلال والحرام فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم للطعام والشراب وطاعتهم فرض بنص الكتاب {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}
١٠/ من يكتب في تاريخ الفقه أو في المدخل لدراسة الفقه الإسلامي لابد أن يذكر الأدوار التي مر بها الفقه الإسلامي، وقد اختلفت نظرة أهل العلم في تقسيم تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره والأقرب تقسيمه إلى ستة أدوار.
١١/ الدور الأول: عهد التشريع وهو العصر النبوي من البعثة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة.
الدور الثاني: عهد الخلفاء الراشدين يعني الدور الفقهي الأولي وهو عهد الخلفاء الراشدين، ويبتدئ من العام الحادي عشر الهجري حتى عام الأربعين من الهجرة إلى بعد مقتل علي بن ابي طالب رضي الله عنه.
الدور الثالث: وهو الدور الفقهي الثاني، وهو عهد صغار الصحابة وكبار التابعين، يبدأ من عام الأربعين للهجرة حتى أوائل القرن الثاني الهجري.
الدور الرابع: وهو الدور الفقهي الثالث، وهو عصر التدوين والأئمة المجتهدين، ويبدأ من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع الهجري.
الدور الخامس: وهو عصر الجمود والتقليد ويبدأ من منتصف القرن الرابع الهجري حتى سقوط بغداد سنة ٦٥٦ للهجرة.
الدور السادس: وهو عصر النهضة الحالية يبدأ من سقوط بغداد حتى العصر الحاضر.
١٢/ عهد التشريع: هو العهد النبوي عصر التأسيس والنشأة للفقه الإسلامي، ويبدأ من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وينتهي بوفاته وهذا يعني أنه امتد ثلاثة وعشرين عاماً هي فترة النبوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وعمره أربعون سنة وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة، ومعنى ذلك أنه بقي في البعثة والرسالة ثلاثاً وعشرين سنة؛ فسبحان الله يعني في هذه الفترة فقط أخرج الله تعالى
به الناس من الظلمات إلى النور وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة وهذا يدل على عظيم بركة وقت النبي عليه الصلاة والسلام.
١٣/ العهد النبوي تميز بمرحلتين متمايزتين:
المرحلة الأولى: ما قبل الهجرة إلى المدينة وتسمى المرحلة المكية.
الثانية: ما بعد الهجرة إلى المدينة وهي المرحلة المدنية.
١٤/ المرحلة المكية مدتها ثلاثة عشر عاماً وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيها ينالهم ما ينالهم من تعذيب كفار مكة.
-وكان التشريع فيها مركزاً على الجوانب الإيمانية، وعلى تثبيت العقيدة، وتربية النفوس وتهذيبها، وذكر أهوال اليوم الآخر والبعث والنشور، والجنة والنار، والدعوة للتوحيد ومحاربة الشرك.
- كان عليه الصلاة والسلام يقول: "يا أهل مكة قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" .
-فتشريع الأحكام لم يكن في هذه الفترة.
١٥/ المرحلة المدنية ومدتها عشرة أعوام بعد ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وأصبح للمسلمين دولة ونظام خاص وشرعت الأحكام في العبادات والمعاملات والعلاقات والأحكام الأسرية وغيرها.
١٦/ تميز العهد النبوي بمرحلتيه المكية والمدنية بجملة من المميزات من أبرزها:
أولاً: وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهر الصحابة، وهو النبي والرسول وإمام المسلمين ومفتيهم وقدوتهم وهو المرجع لهم في جميع شؤونهم، وهذه ميزة عظيمة في التشريع والفقه فكان عليه الصلاة والسلام هو المفتي والمعلم للناس كلما احتاج الناس إلى حكم شرعي يرجعون إليه وكلما نزل بهم نازلة أو جد لهم أمر أو حادث يرجعون للنبي عليه الصلاة والسلام وأحياناً تنزل الآيات على النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الوقائع وأحياناً يبين النبي عليه الصلاة والسلام لهم الحكم بنفسه وهو كما قال الله تعالى :{إن هو إلا وحي يوحى}.
-من المزايا نزول الوحي في هذا العصر كان الوحي ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام لتشريع الأحكام وإكمال الشريعة.
- انحصرت مصادر التشريع في هذا العصر في الكتاب وفي السنة فقط.
١٧/ هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يجتهد أو لا؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم والقول الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد لكنه لا يقر على الخطأ إذا اجتهد وأخطأ لا يقر على الخطأ عليه الصلاة والسلام.
١٨/ اتخذ عليه الصلاة والسلام كتبة للوحي فكان إذا تلقى الوحي من جبريل قرأه على الصحابة وحفظهم إياه، ثم دعا أحد كتبة الوحي فأمره بكتابتها.
- وكتاب الوحي كثيرون منهم عثمان وعلي ومعاوية وأبيّ وغيرهم وكانوا يكتبون على الرقاع أو على قطع الجلد أو صفائح الحجارة والألواح ونحو ذلك.
١٩/ بالنسبة للسنة فقد قيض الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم صحابة أفذاذاً حريصين على أقواله وأفعاله وهديه وسنته وجميع أمره ونقل كل شيء للأمة وكان عليه الصلاة والسلام يحثهم على ذلك فيقول: "نضر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره" وكان في بداية الأمر ينهاهم عن كتابة السنة حتى لا تختلط بالقرآن ثم أذن لهم بتدوين كلامه وسنته فكان بعضهم يكتب ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص واشتهر حفاظ الحديث من الصحابة الذين كانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم ويحفظون حديثه كأبي هريرة وابن عمر وأنس وأبي سعيد وجابر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم.
٢٠/ كان التشريع عموماً والفقه خصوصاً في هذا العصر واقعياً بعيداً عن الفرضيات والجدل، فإذا حدثت حادثة أو جد بالمسلمين نازلة أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قد وقع انتظر الوحي من السماء فإذا جاء الوحي أخبر الصحابة بالحكم الشرعي.
٢١/ من الصحابة الذين اشتهروا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بالفقه والفتوى وأقرهم على ذلك الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأيضاً أبي بن كعب ومعاذ وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف وحذيفة وأبو الدرداء وأبو موسى وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم و لم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى حتى أتم الله على عباده النعمة وأكمل لهم الدين ونزل قول الله عز وجل: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً}.
٢٢/ الصحابة قد يجتهدون إذا كانوا بعيدين عن النبي عليه الصلاة والسلام لكن كانوا لا يقرون على الخطأ إذا حصل وبهذا استدل الصحابة على جواز العزل كما قال جابر:" كنا نعزل والقرآن ينزل" يعني لو كان العزل منهياً عنه لجاء القرآن بالنهي عنه فكانوا يحتجون بذلك.
- ولما قال عليه الصلاة والسلام:" لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فالصحابة وهم متجهون إلى بني قريظة أدركتهم صلاة العصر فهنا وقع الخلاف بينهم فبعضهم قالوا نأخذ بظاهر كلام النبي عليه الصلاة والسلام فلا نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو غربت الشمس وقال آخرون ما قصد النبي عليه الصلاة والسلام هذا إنما قصد أن يحثنا على السير وأن لا نتأخر فتوقفوا وصلوا صلاة العصر في وقتها فانقسم الصحابة إلى فريقين قوم لم يصلوا صلاة العصر حتى وصلوا إلى بني قريظة
وأخروها تمسكاً بظاهر اللفظ والفريق الآخر وقفوا وصلوا صلاة العصر في وقتها ثم ساروا يقول ابن عمر ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أياً من الطائفتين؛ لأن هؤلاء مجتهدون وهؤلاء مجتهدون.
لكن عندما نسأل أي الطائفتين أفقه هل الطائفة التي أخذت بظاهر اللفظ أو الطائفة التي أخذت بالمعنى؟ -التي أخذت بالمعنى؛ ولهذا قال ابن القيم أن الذين أخذوا بالمعنى وتوقفوا وصلوا هؤلاء أفقه لأنهم فهموا مقصود النبي عليه الصلاة والسلام.
٢٣/ الدور الأول من أدوار الفقه الإسلامي فيه أسس الفقه قد أقيمت وقواعده قد قعدت ومبادئه قد وضعت وكذلك كلياته ولم يبقَ إلا الفروع والمسائل التي تطرأ بسبب الحوادث والوقائع فيستنبط العلماء أحكامها من قواعد الشريعة وأدلتها وأصول الفقه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبداً كتاب الله وسنتي".
فوائد منتقاة من برنامج مجالس الفقه لفضيلة الشيخ أ.د سعد بن تركي الخثلان وفقه الله - الاثنين ٢٤-٦-١٤٤٦هـ (مقدمة عن تاريخ الفقه):
١/الفقه له مقام عظيم وهو من أعظم العلوم ومن أشرفها والناس محتاجون إليه حاجة ماسة؛ ولهذا عندما تستمع لأي برنامج إفتاء تجد أن معظم أسئلة الناس في الفقه، يسألون عن مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والبيوع والمعاملات والأطعمة والنذور والأيمان ونحو ذلك، وهذا يبين لنا عظيم شأن الفقه.
٢/ الفقه معناه في اللغة إذا أطلق الفهم وحسن الإدراك والعلم والفطنة؛ ولهذا قال سبحانه {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} يعني لا تفهمون تسبيحهم.
-والفقه في صدر الإسلام يعني العلم بأحكام الدين كله وهذا يشمل علم العقيدة والتفسير والحديث وأحكام الفروع العملية والأخلاق والزهد؛ وهذا المعنى مأخوذ من النصوص الشرعية الكثيرة التي تدل على أن الفقه بمعناه العام أنه الفهم في الشريعة مطلقاً والعلم بأحكامها كلها كما في قول الله عز وجل:{وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا* نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، وفي قوله: "نضر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه". أخرجه الترمذي وأبو داود. وهذا هو الفقه الذي كان في صدر الإسلام.
٣/ بعد ذلك أصبح يطلق الفقه على معنى أخص خاصة في أواسط عهد التابعين يراد به معرفة الأحكام الشرعية العملية المستفاد من أدلتها التفصيلية -فقولنا معرفة أو العلم بالأحكام الشرعية العملية: هذا يدل على أن الفقه علم وله موضوع خاص وقواعد خاصة درسها الفقهاء في كتبهم.
-وقولنا معرفة أو العلم بالأحكام الشرعية: هذا يدل على أن أحكام الفقه أنها أحكام شرعية متلقاة بطريق السمع مأخوذة من الشرع وهو قيد في التعريف يخرج به الأحكام المتلقاة عن طريق العقل ونحو ذلك -العملية: هذا يعني أن الأحكام الفقهية تتعلق بأعمال الناس وأفعالهم في عباداتهم ومعاملاتهم اليومية وهو قيد في التعريف يخرج به الأحكام الاعتقادية والأخلاق والآداب فإنها ليست عملية في الغالب أو أنها تتعلق بالقلوب والسلوك لا بأعمال الأبدان -المكتسب او المستفاد من أدلتها التفصيلية: هذا يعني أن الأحكام لا تعد فقهاً إلا إذا كانت مستندة إلى أدلة الشرع مجتمعة كانت أم آحادًا فهذا هو معنى الفقه بمعناه الاصطلاحي الأخص.
٤/ الفرق بين الفقه وأصول الفقه:
أصول الفقه: هو أدلة الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد.
- فأدلة الفقه إجمالاً: مثل مصادر التشريع: الكتاب السنة الإجماع القياس.
-كيفية الاستفادة منها: فهناك العموم والخصوص والمطلق والمقيد ونحو ذلك.
-حال المستفيد: يعني المجتهد، ومعنى الاجتهاد، ومسائل الاجتهاد. بخلاف الفقه فقد تقدم تعريفه.
٥/ الفقه عند علماء الصدر الأول من الإسلام كما سبق مرادف لمعنى الشريعة الإسلامية؛ لأن الفقه بمعناه العام في صدر الإسلام يتناول أحكام الدين كله؛ ولهذا الإمام أبو حنيفة سمى كتابه الفقه الأكبر وهو في العقيدة فهو لا يختص فقط بالمسائل العملية، بل يشمل العقائد ويشمل الأحكام العملية ويشمل الآداب ويشمل الأخلاق ثم بعد ذلك خص هذا المصطلح (الفقه) عند المتأخرين بالعلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية وبهذا فإن الفقه بهذا المعنى يتفق مع الشريعة في كثير من الخصائص ويفترقان في أمور منها:
-أن الشريعة أعم من الفقه بمعناه الأخص؛ لأن الشريعة تشمل أحكام الدين كله اعتقادات كانت أو أخلاقاً أو آداباً أو أحكاماً عملية. أما الفقه فهو خاص بالأحكام العملية.
-أيضاً الشريعة كلها حق وصواب منزهة عن الخطأ أما الفقه فهو أحكام فقهية اجتهادية. والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ فإن أصاب وافق الشريعة وإن أخطأ خالفها. وهذا المجتهد مأجور على كل حال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". متفق عليه. -أيضاً الشريعة كاملة تامة ثابتة أكملها الله تعالى وأتمها للعباد. أما الفقه فهو متجدد ولا يزال الناس يحدث لهم من الأحكام الفقهية بقدر ما استجد في حياتهم من مسائل وأمور.
-أيضاً الشريعة تعتمد على الكتاب والسنة وتستمد منهما. أما الفقه بمعناه الاصطلاحي فيعتمد على الكتاب والسنة في المقدمة وبالدرجة الأولى ويعتمد أيضاً في كثير من أحكامه الفرعية الاجتهادية على أدلة الاستدلال الأخرى المعتبرة عند الفقهاء كالإجماع والقياس ونحو ذلك من الأدلة.
٦/ الفقه علم شريف من أجل علوم الشريعة قدراً وأسماها مكانة؛ وذلك أن الفقه علم بالأحكام الشرعية التي يتعبد المسلم بها ربه ويتعامل بها مع غيره من الناس فيؤدي العبادة كما أراد الله ويؤدي الحقوق والواجبات التي عليه ولا يستطيع المسلم أن يقيم أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج على الوجه الصحيح إلا بالتفقه في دين الله تعالى، ولا يستطيع أن يعرف ما يحل له من المعاملات وما يحرم عليه وما يجب للمتعاملين معه وما يجب له عليهم إلا بالتفقه في أحكام الشريعة فهو علم تمس الحاجة إليه لا يستغني عنه المسلم.
٧/ قد جاءت النصوص الشرعية ببيان فضل الفقه والترغيب فيه:
-كما في قول الله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافه فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". أخرجه البخاري ومسلم؛ وهذا يدل على أن الإنسان إذا كان يحب التفقه في الدين ويميل إلى التفقه في الدين ويحرص على الاستماع للفتاوى والاستماع للدروس وأن يتبصر في دين الله هذه أمارة على أنه أريد به الخير ان شاء الله تعالى.
-وأن من أعرض عن ذلك ولم يتفقه في الدين وأعرض فربما يفهم من ذلك أنه لم يرد به الخير.
والإمام مالك رحمه الله يقول: "إن الحكمة هي الفقه في دين الله" يعني في قول الله تعالى: {يؤت الحكمة من يشاء} قال الحكمة هي الفقه في دين الله، والعلم الحكمة، ونور يهدي الله به من يشاء، وليس بكثرة المسائل.
-وابن عباس رضي الله عنهما يقول في قول الله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} قال كونوا علماء فقهاء.
-والنبي عليه الصلاة والسلام دعا لابن عباس بالفقه في الدين قال: "اللهم فقهه في الدين".
-وأيضاً في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام:" تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
وهذا كله يدل على شرف الفقه في دين الله، والعلم بأحكام الحلال والحرام، وفهم الكتاب والسنة، وشرف الفقهاء العلماء وفضلهم.
٨/ الإمام أحمد جالس المحدثين كثيراً وانتفع بهم وأخذ عنهم الحديث حتى صار إماماً من أئمة الدين في الحديث، ولكن حين جالس الشافعي وأخذ عنه فقهه عرف مكانة الفقهاء وشهد له بالفضل حتى قال: كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: وما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالسته وهذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي، ثم قال الإمام أحمد: ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو الله للشافعي وأستغفر له، ولما لقي الإمام أحمد ابن الإمام الشافعي قال له: "ستة أدعو لهم عند السحر منهم أبوك" يعني الإمام الشافعي.
٩/ أئمة الإسلام كان عندهم الفقه عظيماً ويعظمون من كان فقيهاً باستنباط معاني النصوص الشرعية؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله قال: "فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام وعنوا بضبط الحلال والحرام فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم للطعام والشراب وطاعتهم فرض بنص الكتاب {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}
١٠/ من يكتب في تاريخ الفقه أو في المدخل لدراسة الفقه الإسلامي لابد أن يذكر الأدوار التي مر بها الفقه الإسلامي، وقد اختلفت نظرة أهل العلم في تقسيم تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره والأقرب تقسيمه إلى ستة أدوار.
١١/ الدور الأول: عهد التشريع وهو العصر النبوي من البعثة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة.
الدور الثاني: عهد الخلفاء الراشدين يعني الدور الفقهي الأولي وهو عهد الخلفاء الراشدين، ويبتدئ من العام الحادي عشر الهجري حتى عام الأربعين من الهجرة إلى بعد مقتل علي بن ابي طالب رضي الله عنه.
الدور الثالث: وهو الدور الفقهي الثاني، وهو عهد صغار الصحابة وكبار التابعين، يبدأ من عام الأربعين للهجرة حتى أوائل القرن الثاني الهجري.
الدور الرابع: وهو الدور الفقهي الثالث، وهو عصر التدوين والأئمة المجتهدين، ويبدأ من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع الهجري.
الدور الخامس: وهو عصر الجمود والتقليد ويبدأ من منتصف القرن الرابع الهجري حتى سقوط بغداد سنة ٦٥٦ للهجرة.
الدور السادس: وهو عصر النهضة الحالية يبدأ من سقوط بغداد حتى العصر الحاضر.
١٢/ عهد التشريع: هو العهد النبوي عصر التأسيس والنشأة للفقه الإسلامي، ويبدأ من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وينتهي بوفاته وهذا يعني أنه امتد ثلاثة وعشرين عاماً هي فترة النبوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وعمره أربعون سنة وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة، ومعنى ذلك أنه بقي في البعثة والرسالة ثلاثاً وعشرين سنة؛ فسبحان الله يعني في هذه الفترة فقط أخرج الله تعالى
به الناس من الظلمات إلى النور وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة وهذا يدل على عظيم بركة وقت النبي عليه الصلاة والسلام.
١٣/ العهد النبوي تميز بمرحلتين متمايزتين:
المرحلة الأولى: ما قبل الهجرة إلى المدينة وتسمى المرحلة المكية.
الثانية: ما بعد الهجرة إلى المدينة وهي المرحلة المدنية.
١٤/ المرحلة المكية مدتها ثلاثة عشر عاماً وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيها ينالهم ما ينالهم من تعذيب كفار مكة.
-وكان التشريع فيها مركزاً على الجوانب الإيمانية، وعلى تثبيت العقيدة، وتربية النفوس وتهذيبها، وذكر أهوال اليوم الآخر والبعث والنشور، والجنة والنار، والدعوة للتوحيد ومحاربة الشرك.
- كان عليه الصلاة والسلام يقول: "يا أهل مكة قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" .
-فتشريع الأحكام لم يكن في هذه الفترة.
١٥/ المرحلة المدنية ومدتها عشرة أعوام بعد ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وأصبح للمسلمين دولة ونظام خاص وشرعت الأحكام في العبادات والمعاملات والعلاقات والأحكام الأسرية وغيرها.
١٦/ تميز العهد النبوي بمرحلتيه المكية والمدنية بجملة من المميزات من أبرزها:
أولاً: وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهر الصحابة، وهو النبي والرسول وإمام المسلمين ومفتيهم وقدوتهم وهو المرجع لهم في جميع شؤونهم، وهذه ميزة عظيمة في التشريع والفقه فكان عليه الصلاة والسلام هو المفتي والمعلم للناس كلما احتاج الناس إلى حكم شرعي يرجعون إليه وكلما نزل بهم نازلة أو جد لهم أمر أو حادث يرجعون للنبي عليه الصلاة والسلام وأحياناً تنزل الآيات على النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الوقائع وأحياناً يبين النبي عليه الصلاة والسلام لهم الحكم بنفسه وهو كما قال الله تعالى :{إن هو إلا وحي يوحى}.
-من المزايا نزول الوحي في هذا العصر كان الوحي ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام لتشريع الأحكام وإكمال الشريعة.
- انحصرت مصادر التشريع في هذا العصر في الكتاب وفي السنة فقط.
١٧/ هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يجتهد أو لا؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم والقول الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد لكنه لا يقر على الخطأ إذا اجتهد وأخطأ لا يقر على الخطأ عليه الصلاة والسلام.
١٨/ اتخذ عليه الصلاة والسلام كتبة للوحي فكان إذا تلقى الوحي من جبريل قرأه على الصحابة وحفظهم إياه، ثم دعا أحد كتبة الوحي فأمره بكتابتها.
- وكتاب الوحي كثيرون منهم عثمان وعلي ومعاوية وأبيّ وغيرهم وكانوا يكتبون على الرقاع أو على قطع الجلد أو صفائح الحجارة والألواح ونحو ذلك.
١٩/ بالنسبة للسنة فقد قيض الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم صحابة أفذاذاً حريصين على أقواله وأفعاله وهديه وسنته وجميع أمره ونقل كل شيء للأمة وكان عليه الصلاة والسلام يحثهم على ذلك فيقول: "نضر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره" وكان في بداية الأمر ينهاهم عن كتابة السنة حتى لا تختلط بالقرآن ثم أذن لهم بتدوين كلامه وسنته فكان بعضهم يكتب ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص واشتهر حفاظ الحديث من الصحابة الذين كانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم ويحفظون حديثه كأبي هريرة وابن عمر وأنس وأبي سعيد وجابر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم.
٢٠/ كان التشريع عموماً والفقه خصوصاً في هذا العصر واقعياً بعيداً عن الفرضيات والجدل، فإذا حدثت حادثة أو جد بالمسلمين نازلة أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قد وقع انتظر الوحي من السماء فإذا جاء الوحي أخبر الصحابة بالحكم الشرعي.
٢١/ من الصحابة الذين اشتهروا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بالفقه والفتوى وأقرهم على ذلك الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأيضاً أبي بن كعب ومعاذ وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف وحذيفة وأبو الدرداء وأبو موسى وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم و لم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى حتى أتم الله على عباده النعمة وأكمل لهم الدين ونزل قول الله عز وجل: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً}.
٢٢/ الصحابة قد يجتهدون إذا كانوا بعيدين عن النبي عليه الصلاة والسلام لكن كانوا لا يقرون على الخطأ إذا حصل وبهذا استدل الصحابة على جواز العزل كما قال جابر:" كنا نعزل والقرآن ينزل" يعني لو كان العزل منهياً عنه لجاء القرآن بالنهي عنه فكانوا يحتجون بذلك.
- ولما قال عليه الصلاة والسلام:" لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فالصحابة وهم متجهون إلى بني قريظة أدركتهم صلاة العصر فهنا وقع الخلاف بينهم فبعضهم قالوا نأخذ بظاهر كلام النبي عليه الصلاة والسلام فلا نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو غربت الشمس وقال آخرون ما قصد النبي عليه الصلاة والسلام هذا إنما قصد أن يحثنا على السير وأن لا نتأخر فتوقفوا وصلوا صلاة العصر في وقتها فانقسم الصحابة إلى فريقين قوم لم يصلوا صلاة العصر حتى وصلوا إلى بني قريظة
وأخروها تمسكاً بظاهر اللفظ والفريق الآخر وقفوا وصلوا صلاة العصر في وقتها ثم ساروا يقول ابن عمر ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أياً من الطائفتين؛ لأن هؤلاء مجتهدون وهؤلاء مجتهدون.
لكن عندما نسأل أي الطائفتين أفقه هل الطائفة التي أخذت بظاهر اللفظ أو الطائفة التي أخذت بالمعنى؟ -التي أخذت بالمعنى؛ ولهذا قال ابن القيم أن الذين أخذوا بالمعنى وتوقفوا وصلوا هؤلاء أفقه لأنهم فهموا مقصود النبي عليه الصلاة والسلام.
٢٣/ الدور الأول من أدوار الفقه الإسلامي فيه أسس الفقه قد أقيمت وقواعده قد قعدت ومبادئه قد وضعت وكذلك كلياته ولم يبقَ إلا الفروع والمسائل التي تطرأ بسبب الحوادث والوقائع فيستنبط العلماء أحكامها من قواعد الشريعة وأدلتها وأصول الفقه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبداً كتاب الله وسنتي".