الحمدان
01-18-2025, 08:26 PM
فوائد منتقاة من برنامج مجالس الفقه لفضيلة الشيخ أ.د سعد بن تركي الخثلان وفقه الله
الاثنين ١٣-٧-١٤٤٦هـ
(استكمال الدور الرابع من أدوار الفقه الإسلامي: عصر التدوين والأئمة المجتهدين-الدور الخامس: عصر الجمود والتقليد وسد باب الاجتهاد-الدور السادس: دور النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد):
١/ دُوّن الفقه في هذا العصر، وكثرت المؤلفات والمصنفات، ودُوّنت أصول المذاهب التي اعتمدوا عليها في الفقه والاستدلال. وكانت كتب الفقه في هذا العصر تُعنى بالدليل وتهدف إلى إظهار الحق من غير تعصب. وقد غلب الجدل والمناظرات التي تهدف إلى إظهار الحق على بعض الكتب التي صُنّفت في هذا العصر.
٢/ استفاد الفقه من تدوين السنة والعلوم الأخرى في هذا العصر، فكان تدوينه أولًا مختلطًا بالسنة وأقوال الصحابة والتابعين، كما مثلًا في “الموطأ” للإمام مالك، و"الجامع الكبير"؛ لسفيان، و"اختلاف الحديث"؛ للشافعي.
٣/ ظهرت كتب الفقه المجرّدة عن الأدلة ككتاب "الخراج" لأبي يوسف، وكتب محمد بن الحسن الستة المشهورة بكتب ظاهر الرواية، وهي "الجامع الصغير"، و"الجامع الكبير"، و"الزيادات"، و"المبسوط"، كذلك أيضًا "مدونة الإمام مالك" التي دونها سحنون التنوخي، وأيضًا "مختصر المزني"، و"مسائل أحمد".
٤/ ظهرت أيضًا الكتب الفقهية التي تُعنى بالدليل والتعليل ككتاب “الأم” للشافعي. وأيضًا دُوّنت الكتب التي تُعنى بفتاوى الصحابة والتابعين وأقوالهم وأقضية الخلفاء الراشدين، مثل كتاب “الفرائض” لسفيان الثوري، وكتاب “أخبار القضاة” لوكيع محمد بن خلف بن حيان، وكتاب “الأقضية” لأبي محمد بن عبد الله الهروي.
٥/ في هذا العصر نشأ علم أصول الفقه، ويُعدّ الإمام الشافعي أول من صنّف في هذا الفن في كتابه المشهور “الرسالة”. وهو أول من رسم مناهج الاستنباط، وبيّن كيف يستدلّ الفقيه للأحكام بطريقة منهجية صحيحة.
٦/ عندما نقول إن علم أصول الفقه نشأ في هذا العصر، وإن مؤسِّسُه محمد بن إدريس الشافعي، ليس معنى هذا أن أصول الفقه وقواعده لم تُعرف إلا عن الإمام الشافعي. فقد كانت معروفة في الجملة منذ عصر التشريع، فحيث ما وُجد الفقه، وُجد منهج الاستدلال والاستنباط؛ فالعلماء يعرفون أن النهي للتحريم، وأن الأمر للوجوب، وأن القرآن مُقدّم على السنة، وأن النصوص يُقيّد بعضها بعضًا ويُفسّر بعضها بعضًا، لكن هذا لم يكن مُدوّنًا ولا محدد المعالم حتى جاء الإمام الشافعي فوضع قواعده.
٧/ اكتُشف في هذا العصر - الدور الرابع- الأوراق والقراطيس.
"قراطيس" وردت تسميتها بذلك في القرآن، ويُقال لها الأوراق، ويُقال لها الكاغد، كلها مسميات للورق.
اكتُشف الورق في زمن الدولة العباسية، في عهد المأمون، على يد الفضل بن يحيى البرمكي.
فاكتشافه كان يُعتبر نقلة نوعية في تاريخ الفقه والعلوم بعامة؛ سهل على الطلاب والعلماء تدوين العلوم وكتابة المؤلفات الضخمة.
٨/ العلماء قبل اكتشاف الورق: كانوا يُدوّنون علومهم على الحجارة وعلى الألواح ونحوها، وهذه -يعني- يصعب الحصول عليها، وتَصعُب الكتابة عليها، وأيضًا يصعب حملها وحفظها. فكان اكتشاف الورق وصناعة الورق له دور بارز وكبير في التأليف، وفي التدوين، وفي نشر العلم وحفظه.
٩/ في هذا العصر تم التمييز بين المصادر الفقهية، وأيضًا ترتيبها وتقديم بعضها على بعض في الاستدلال. وتَرجيح المذاهب الفقهية لبعض المصادر على بعض، وأُلّفت الكتب التي تُبين مصادر الاستدلال وأصوله عند كل مذهب.
فمثلًا، أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، هو أول من وضع أصول المذهب الحنفي، وبيّن قواعده وأصوله في الاستدلال، بينما نجد الإمام الشافعي وضع أصول مذهبه بنفسه، خاصة في كتاب “الأم” و“الرسالة”. وأما بالنسبة للإمام مالك وأحمد، فقد استنبط أصحابهما أصول مذهبهما من أقوالهما وكلامهما وفقههما.
١٠/ من معالم هذا العصر ظهور الفقه التقديري -يعني الافتراضي- الذي لا يقف عند حدود ما وقع، بل يتخطاه إلى الافتراض والتقدير، بافتراض الوقائع والحوادث التي لم تقع، واستنباط أحكام فقهية تُلائمها؛ وهذا من باب:
أولًا، حتى يكون طالب العلم على معرفة فيما إذا وقعت.
وأيضًا من باب التمرين للطلاب وتدريبهم على ذلك. وكان هذا النوع من الفقه نتيجة لتخصص الفقهاء في الفقه، وجمع التلاميذ حولهم يسألونهم وهم يُجيبون.
وأيضًا كان هناك توسع في استعمال القياس والرأي، وكثرة الجدل والمناظرة.
١١/ في قسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رسائل علمية عن هذه المسائل التي افترضها الفقهاء السابقون وتحققت فيما بعد، وكنت مشرفًا على إحدى هذه الرسائل العلمية، وأكثر من عني بهذا الفقه، الحنفية؛ فإنهم عندهم براعة في الجدل وعلم الكلام والتفنن في الرأي والقياس، فأكثروا من هذه الفرضيات والوقائع التي لم تحدث، واستفاد منها العلماء بعدهم؛ لأن كثيرًا منها قد وقع في عصور لاحقة، وهذا يدل على عظمة الفقه الإسلامي؛ كيف أن الفقهاء السابقين افترضوا أمورًا لم تقع ثم وقعت فيما بعد.
١٢/ في هذا العصر ظهرت مدرسة أهل الظاهر، أو ما يُسمى بمذهب الظاهرية، والذي أسسه داود بن علي بن خلف الظاهري، متوفى سنة ٢٧٠ هـ. وكان يقوم على التمسك بظواهر النصوص دون الرأي والقياس والمصالح والاستحسان وغيرها من الأدلة القائمة على الرأي.
١٣/ كان داود في بداية أمره شافعيَّ المذهب، بل -كما يُقال في ترجمته- كان متعصبًا للإمام الشافعي، ثم بعد ذلك استقل بمذهبه الخاص. ثم انقرض هذا المذهب، وذلك لفقده المرونة، وكونه ليس له أصول منضبطة، فانقرض ولم يعد له أتباع، حتى أتى أبو محمد علي بن حزم، توفي سنة ٤٥٦ هـ، فتبناه من جديد في الأندلس ونشره، لكن مع ذلك لم يكن له الأتباع الذين ينشرونه ويدافعون عنه ويتبنون مذهبه كما كان للمذاهب الأربعة المشهورة. فكان أتباعه قلة إلى وقتنا الحاضر. أتباعه قلة؛ لا نقول إنه انقرض انقراضًا تامًّا، له أتباع، لكنهم أصبحوا قلة أو ندرة.
١٤/ المذهب الظاهري: كثير من أهل العلم لم يعتبروه مذهبًا على غرار المذاهب الأربعة؛ لأنه ليس له أصول منضبطة، ومخالفته لبعض المعاني الشرعية، فلم يعتبره مذهبًا مستقلًا. لكن يستفيد طالب العلم من كتبهم، خاصة في الاستدلال، والجمع، والتعليل، ونحو ذلك.
١٥/ في هذا العصر ظهرت الرحلات العلمية للفقهاء والعلماء، وانتشرت انتشارًا واسعًا، حتى لا تكاد تجد ترجمة لعالم من العلماء إلا ويُقال في ترجمته: ارتحل إلى كذا وإلى كذا. والرحلات قديمًا كان فيها صعوبة ليست كالرحلات في الوقت الحاضر؛ إذ إن من يرتحل لطلب العلم ينقطع عن أهله انقطاعًا تامًّا، فليس هناك وسائل تواصل، وليس هناك هواتف، وتستغرق وقتًا طويلًا، وهي محفوفة بالمخاطر. ويغيب عن أهله ينقطع مدة طويلة بالسنين، ولا يدري عنه أهله، ولا يدرون عن أحواله، كل ذلك لأجل طلب العلم وتحصيل العلم.
١٦/ فقهاء هذا العصر كثير، وقد انتشروا في الآفاق وتفرقوا في الأقطار.
وفي آخر هذا العصر بدأ التعصب المذهبي، الذي حدث لبعض أتباع الأئمة، وهذا ما برز في الدور الذي بعده، الذي سنتحدث عنه.
١٧/ الدور الخامس: عصر الجمود والتقليد وسد باب الاجتهاد، يبدأ من منتصف القرن الرابع الهجري حتى سقوط الدولة العباسية سنة ٦٥٦هـ على يد المغول الذين اجتاحوا العالم الإسلامي، وأسقطوا الخلافة العباسية، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله.
١٨/ أبرز ملامح هذا العصر: تكونت المذاهب الفقهية في الدور الرابع، وتميز بعضها عن بعض، وصار لكل مذهب أتباع يقلدونه، مما أدى إلى ركود الفقه في هذا العصر الخامس، ووقوف العلماء عند المذاهب الفقهية السابقة، والتمذهب بها، والعكوف على كتبها، والانشغال بما خلفه الأئمة في العصر السابق من فقه وفروع، والتفريع على أصولهم وقواعدهم؛ فكان له أثر في ظهور التقليد والجمود وسد باب الاجتهاد، فانحصر دور الفقهاء في هذا العصر في تنظيم وترتيب الفقه المذهبي، وجمع فتاوى الأئمة، وتعليل أحكامهم، والاستدلال لأقوالهم. وأيضًا تحقيق ما هو المذهب: ما هو المذهب عند الحنفية؟ ما هو المذهب عند المالكية؟ ما هو المذهب عند الشافعية؟ ما هو المذهب عند الحنابلة؟ وترجيح ما هو المذهب، وترجيح آراء علماء المذهب وأقوالهم على آراء وأقوال المذاهب الأخرى.
١٩/ انشغل غالب الفقهاء في هذا العصر بتأليف مناقب الأئمة الأربعة، والدعوة إلى الالتزام بمذاهبهم، ومنع انتقال المقلد من مذهب إلى مذهب.
٢٠/ برز في هذا العصر بشكل كبير فتنة التعصب المذهبي، التي أدت إلى النزاع والخصومة والردود والمجادلات، والتعصب الشديد للمذهب ولو كان مخالفًا للصواب، حتى بلغ بعض شيوخ الحنفية أنه قال: “كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ”. يعني إلى هذه الدرجة!
بل إن من يُسنَد إليه منصب من المناصب الدينية في الدولة العباسية، كالإفتاء والقضاء ونحوها، لا يُعين في وظيفته إلا من كان على مذهبه، من شدة التعصب المذهبي.
بل تعدى الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك؛ تعدى إلى أن بعض أتباع المذاهب الفقهية يتعامل مع المخالف له في المذهب وكأنه على ملة أخرى غير ملة المسلمين، فلا يُزوجه ولا يتزوج منه ولا يصلي خلفه، يعني إلى هذه الدرجة!
٢٠/ هذا الوجه غير المشرق في هذا العصر، يقابله وجه مشرق أيضًا، وهو أنه برز فيه علماء أفذاذ أثْرَوا ساحة الفقه العلمية بما أوجدوا من فنون، وما أحدثوا من مصنفات جديدة خدمت الفقه ونفعت.
٢١/ ظهر فن القواعد الفقهية، حيث وضع الفقهاء قواعد الفقه وصنفوا فيها.
٢٢/ القاعدة الفقهية تعريفها: حكم أغلبي يُتعرف منه حكم الجزئيات الفقهية المباشرة.
٢٣/ من أوائل من صنف في القواعد الفقهية، أبو الحسن الكرخي، حيث صنّف أصول الكرخي التي أخذها من القواعد التي جمعها أبو طاهر الدباس، وشرحها أبو حفص عمر المعروف بنجم الدين النسفي.
٢٤/ أبو طاهر الدباس يُقال إنه أول من وضع قواعد الفقه، وهناك قصة عجيبة تتناقل في كتب أهل العلم عن أبي طاهر الدباس؛ فقد ذكر السيوطي قال: حكى القاضي أبو سعيد الهروي أن بعض أئمة الحنفية بهراة بلغه أن أبا طاهر الدباس إمام الحنفية بما وراء النهر ردّ جميع مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة، فسافر إليه. وكان أبو طاهر الدباس كفيفًا، وكان كل ليلة يكرّر تلك القواعد بمسجده بعدما يخرج الناس منه. فأتى الهروي ودخل المسجد مختفيًا، والتف بحصير، وخرج الناس، وأغلق أبو طاهر الدباس المسجد، وجعل يسرد القواعد. فلما سرد سبع قواعد، عطس الهروي الذي كان مختفياً في الحصير، فأحس به أبو طاهر، فضربه وأخرجه من المسجد. ثم لم يزل يكررها بعد ذلك، فرجع الهروي لأصحابه وتلا هذه القواعد السبع.
ثم بعد ذلك، جمع أبو طاهر الدباس أهم قواعد مذهب أبي حنيفة في سبع عشرة قاعدة. وبعده، كما ذكرنا، أبو الحسن الكرخي، وهو أيضًا من أقران الدباس، والظاهر أن الكرخي أخذ القواعد التي جمعها أبو طاهر الدباس وأضاف إليها.
٢٥/ أيضًا هناك كتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وغيرها من كتب قواعد الفقه التي ظهرت في هذا العصر.
٢٦/ ظهر في هذا العصر علم الخلاف أو ما يُعرف بالفقه المقارن، وهو علم يبحث فيما اختلف فيه العلماء من أحكام بعرض أقوالهم في المسألة الواحدة، وتحديد موضع الخلاف فيها، وأدلة كل فريق، وبيان القول الراجح بالدليل.
وقد بدأت معالم الخلاف المذهبي بين الفقهاء في العصر السابق، عصر التدوين والأئمة المجتهدين، لكن في هذا العصر حُددت معالمه وظهرت ملامحه، وأصبح فنًا من فنون العلم تُصنف فيه المؤلفات.
٢٧/ من أشهر المؤلفات المصنفة في الفقه المقارن أو علم الخلاف، منها مثلًا: "نهاية المطلب في دراية المذهب" لإمام الحرمين الجويني، و"البيان" للعمراني، و"بداية المجتهد" لابن رشد، وغيرها.
٢٨/ لم يكن جميع علماء هذا العصر، كما ذكرنا، متعصبين، بل ظهر طائفة كبيرة من الأئمة الكبار الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، مثل البيهقي، الذي يقول عنه إمام الحرمين: "ما من فقيه إلا وللشافعي عليه منة، إلا أبا بكر البيهقي فإن المنة له على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه".
-كذلك أيضًا أبو بكر البغدادي، الذي ظهر في هذا العصر وله كتاب "التاريخ"، وهو كتاب عظيم.
-كذلك ابن عبد البر، حافظ المغرب، صاحب المصنفات الكثيرة، مثل "التمهيد" و"الاستذكار". -كذلك أيضًا ابن العربي، وله كتب قيمة كـ"عارضة الأحوذي" و"أحكام القرآن".
-كذلك القاضي عياض، وله مصنفات جليلة القدر، منها "الإكمال في شرح صحيح مسلم"، الذي أكمل به كتاب "الْمُعْلِم" للمازري، و"مشارق الأنوار"، وغيرها من المؤلفات.
-كذلك أيضًا ابن هبيرة، والكاساني، وأيضًا ابن رشد، وشيخ الحنابلة الموفق ابن قدامة، الذي صنّف كتاب "المغني"، الذي يعتبر موسوعة عظيمة في الفقه الإسلامي.
-ليس المقصود التتبع والحصر، وإنما المقصود التمثيل الذي يتبين به أن هذا العصر، وإن كان فيه التعصب قد برز، إلا أن فيه جوانب مشرقة، وظهر فيه علماء أجلاء كانت علومهم ومؤلفاتهم مثرية للفقه، كاشفة لمشكلاته، وخادمة وموسّعة في علومه وقواعده.
٢٩/ الدور السادس، هو دور النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد، وهو أطول أدوار الفقه الإسلامي، إذ إنه يبدأ من سقوط الدولة العباسية ويستمر - في قول كثير ممن كتب في تاريخ الفقه - إلى الوقت الحاضر.
٣٠/ المتأمّل لهذا العصر ومستجدّاته، وما كان من التدرّج الفقهي في العصور السابقة، يتبيّن أن تسمية هذه المدة التاريخية بعصر اليقظة الفقهية أو النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد غير دقيقة؛ لأن هذا العصر قد مرّ بمرحلتين متباينتين:
• المرحلة الأولى: مرحلة ضعف وجمود وتقليد وتعصّب مذهبي، امتدادًا للعصر السابق، امتدّت من سقوط الدولة العباسية منتصف القرن السابع إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريبًا.
• المرحلة الثانية: من منتصف القرن الثالث عشر الهجري إلى وقتنا الحاضر، غلبت عليها عوامل النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد وإحياء الفقه وتجديده، وتعدّدت فيها نواحي النهضة الفقهية.
٣١/ المرحلة الأولى من هذا العصر - من منتصف القرن السابع الهجري إلى منتصف القرن الثالث عشر: فقد دبّ الفتور في نفوس كثير من الفقهاء، وانتشر التقليد، وزاد التعصّب المذهبي. وكان من أسباب ذلك:
-الدعاية القوية التي قام بها أنصار المذاهب الفقهية.
-تدوين المذاهب الفقهية، وهذه الخطوة وإن كانت جيدة في تاريخ الفقه، إلا أن من آثارها أن الفقهاء فيما بعد أخذوا بتلك المدونات، وصرفوا الهمم لفهمها ودراستها، واستغنوا بها عن البحث والاجتهاد.
-التحاسد والوشاية التي تقع من بعض الأقران في بعضهم بعضًا، وإن كانت هذه موجودة في كل عصر ومصر، إلا أنها برزت في هذه الفترة بشكل أظهر.
-الإفراط في اختصار المصنّفات السابقة ونظمها والعكوف عليها.
-الغلوّ في تعظيم الأئمة، والتعصّب لمذاهبهم وآرائهم، حتى وإن كانت مخالفة للصواب والدليل.
فكانت هذه هي العوامل التي أدّت إلى ذلك.
٣٢/ لم يكن جميع علماء هذا العصر على منهج الضعف والجمود والتقليد؛ فظهر في هذا العصر طائفة كبيرة من الأئمّة الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، مثلًا:
• الإمام القرطبي، أبو عبد الله القرطبي.
• الإمام النووي.
• كمال بن هُمَام.
• الإمام العظيم أبو العباس ابن تيمية الحرّاني.
• تلميذه الإمام العظيم ابن القيم الجوزية.
• الحافظ الذهبي.
• ابن مُفلح.
• الحافظ ابن كثير.
• خليل بن إسحاق.
• الشاطبي.
• الحافظ ابن رجب.
• الحافظ ابن حجر.
وغيرهم من أئمة أعلام ظهروا في هذه الفترة، ونفع الله تعالى بهم، واستفاد منهم مَن أتى بعدهم إلى وقتنا الحاضر. والعلماء وطلبة العلم ما زالوا يفيدون من كتب هؤلاء الأئمة
الاثنين ١٣-٧-١٤٤٦هـ
(استكمال الدور الرابع من أدوار الفقه الإسلامي: عصر التدوين والأئمة المجتهدين-الدور الخامس: عصر الجمود والتقليد وسد باب الاجتهاد-الدور السادس: دور النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد):
١/ دُوّن الفقه في هذا العصر، وكثرت المؤلفات والمصنفات، ودُوّنت أصول المذاهب التي اعتمدوا عليها في الفقه والاستدلال. وكانت كتب الفقه في هذا العصر تُعنى بالدليل وتهدف إلى إظهار الحق من غير تعصب. وقد غلب الجدل والمناظرات التي تهدف إلى إظهار الحق على بعض الكتب التي صُنّفت في هذا العصر.
٢/ استفاد الفقه من تدوين السنة والعلوم الأخرى في هذا العصر، فكان تدوينه أولًا مختلطًا بالسنة وأقوال الصحابة والتابعين، كما مثلًا في “الموطأ” للإمام مالك، و"الجامع الكبير"؛ لسفيان، و"اختلاف الحديث"؛ للشافعي.
٣/ ظهرت كتب الفقه المجرّدة عن الأدلة ككتاب "الخراج" لأبي يوسف، وكتب محمد بن الحسن الستة المشهورة بكتب ظاهر الرواية، وهي "الجامع الصغير"، و"الجامع الكبير"، و"الزيادات"، و"المبسوط"، كذلك أيضًا "مدونة الإمام مالك" التي دونها سحنون التنوخي، وأيضًا "مختصر المزني"، و"مسائل أحمد".
٤/ ظهرت أيضًا الكتب الفقهية التي تُعنى بالدليل والتعليل ككتاب “الأم” للشافعي. وأيضًا دُوّنت الكتب التي تُعنى بفتاوى الصحابة والتابعين وأقوالهم وأقضية الخلفاء الراشدين، مثل كتاب “الفرائض” لسفيان الثوري، وكتاب “أخبار القضاة” لوكيع محمد بن خلف بن حيان، وكتاب “الأقضية” لأبي محمد بن عبد الله الهروي.
٥/ في هذا العصر نشأ علم أصول الفقه، ويُعدّ الإمام الشافعي أول من صنّف في هذا الفن في كتابه المشهور “الرسالة”. وهو أول من رسم مناهج الاستنباط، وبيّن كيف يستدلّ الفقيه للأحكام بطريقة منهجية صحيحة.
٦/ عندما نقول إن علم أصول الفقه نشأ في هذا العصر، وإن مؤسِّسُه محمد بن إدريس الشافعي، ليس معنى هذا أن أصول الفقه وقواعده لم تُعرف إلا عن الإمام الشافعي. فقد كانت معروفة في الجملة منذ عصر التشريع، فحيث ما وُجد الفقه، وُجد منهج الاستدلال والاستنباط؛ فالعلماء يعرفون أن النهي للتحريم، وأن الأمر للوجوب، وأن القرآن مُقدّم على السنة، وأن النصوص يُقيّد بعضها بعضًا ويُفسّر بعضها بعضًا، لكن هذا لم يكن مُدوّنًا ولا محدد المعالم حتى جاء الإمام الشافعي فوضع قواعده.
٧/ اكتُشف في هذا العصر - الدور الرابع- الأوراق والقراطيس.
"قراطيس" وردت تسميتها بذلك في القرآن، ويُقال لها الأوراق، ويُقال لها الكاغد، كلها مسميات للورق.
اكتُشف الورق في زمن الدولة العباسية، في عهد المأمون، على يد الفضل بن يحيى البرمكي.
فاكتشافه كان يُعتبر نقلة نوعية في تاريخ الفقه والعلوم بعامة؛ سهل على الطلاب والعلماء تدوين العلوم وكتابة المؤلفات الضخمة.
٨/ العلماء قبل اكتشاف الورق: كانوا يُدوّنون علومهم على الحجارة وعلى الألواح ونحوها، وهذه -يعني- يصعب الحصول عليها، وتَصعُب الكتابة عليها، وأيضًا يصعب حملها وحفظها. فكان اكتشاف الورق وصناعة الورق له دور بارز وكبير في التأليف، وفي التدوين، وفي نشر العلم وحفظه.
٩/ في هذا العصر تم التمييز بين المصادر الفقهية، وأيضًا ترتيبها وتقديم بعضها على بعض في الاستدلال. وتَرجيح المذاهب الفقهية لبعض المصادر على بعض، وأُلّفت الكتب التي تُبين مصادر الاستدلال وأصوله عند كل مذهب.
فمثلًا، أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، هو أول من وضع أصول المذهب الحنفي، وبيّن قواعده وأصوله في الاستدلال، بينما نجد الإمام الشافعي وضع أصول مذهبه بنفسه، خاصة في كتاب “الأم” و“الرسالة”. وأما بالنسبة للإمام مالك وأحمد، فقد استنبط أصحابهما أصول مذهبهما من أقوالهما وكلامهما وفقههما.
١٠/ من معالم هذا العصر ظهور الفقه التقديري -يعني الافتراضي- الذي لا يقف عند حدود ما وقع، بل يتخطاه إلى الافتراض والتقدير، بافتراض الوقائع والحوادث التي لم تقع، واستنباط أحكام فقهية تُلائمها؛ وهذا من باب:
أولًا، حتى يكون طالب العلم على معرفة فيما إذا وقعت.
وأيضًا من باب التمرين للطلاب وتدريبهم على ذلك. وكان هذا النوع من الفقه نتيجة لتخصص الفقهاء في الفقه، وجمع التلاميذ حولهم يسألونهم وهم يُجيبون.
وأيضًا كان هناك توسع في استعمال القياس والرأي، وكثرة الجدل والمناظرة.
١١/ في قسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رسائل علمية عن هذه المسائل التي افترضها الفقهاء السابقون وتحققت فيما بعد، وكنت مشرفًا على إحدى هذه الرسائل العلمية، وأكثر من عني بهذا الفقه، الحنفية؛ فإنهم عندهم براعة في الجدل وعلم الكلام والتفنن في الرأي والقياس، فأكثروا من هذه الفرضيات والوقائع التي لم تحدث، واستفاد منها العلماء بعدهم؛ لأن كثيرًا منها قد وقع في عصور لاحقة، وهذا يدل على عظمة الفقه الإسلامي؛ كيف أن الفقهاء السابقين افترضوا أمورًا لم تقع ثم وقعت فيما بعد.
١٢/ في هذا العصر ظهرت مدرسة أهل الظاهر، أو ما يُسمى بمذهب الظاهرية، والذي أسسه داود بن علي بن خلف الظاهري، متوفى سنة ٢٧٠ هـ. وكان يقوم على التمسك بظواهر النصوص دون الرأي والقياس والمصالح والاستحسان وغيرها من الأدلة القائمة على الرأي.
١٣/ كان داود في بداية أمره شافعيَّ المذهب، بل -كما يُقال في ترجمته- كان متعصبًا للإمام الشافعي، ثم بعد ذلك استقل بمذهبه الخاص. ثم انقرض هذا المذهب، وذلك لفقده المرونة، وكونه ليس له أصول منضبطة، فانقرض ولم يعد له أتباع، حتى أتى أبو محمد علي بن حزم، توفي سنة ٤٥٦ هـ، فتبناه من جديد في الأندلس ونشره، لكن مع ذلك لم يكن له الأتباع الذين ينشرونه ويدافعون عنه ويتبنون مذهبه كما كان للمذاهب الأربعة المشهورة. فكان أتباعه قلة إلى وقتنا الحاضر. أتباعه قلة؛ لا نقول إنه انقرض انقراضًا تامًّا، له أتباع، لكنهم أصبحوا قلة أو ندرة.
١٤/ المذهب الظاهري: كثير من أهل العلم لم يعتبروه مذهبًا على غرار المذاهب الأربعة؛ لأنه ليس له أصول منضبطة، ومخالفته لبعض المعاني الشرعية، فلم يعتبره مذهبًا مستقلًا. لكن يستفيد طالب العلم من كتبهم، خاصة في الاستدلال، والجمع، والتعليل، ونحو ذلك.
١٥/ في هذا العصر ظهرت الرحلات العلمية للفقهاء والعلماء، وانتشرت انتشارًا واسعًا، حتى لا تكاد تجد ترجمة لعالم من العلماء إلا ويُقال في ترجمته: ارتحل إلى كذا وإلى كذا. والرحلات قديمًا كان فيها صعوبة ليست كالرحلات في الوقت الحاضر؛ إذ إن من يرتحل لطلب العلم ينقطع عن أهله انقطاعًا تامًّا، فليس هناك وسائل تواصل، وليس هناك هواتف، وتستغرق وقتًا طويلًا، وهي محفوفة بالمخاطر. ويغيب عن أهله ينقطع مدة طويلة بالسنين، ولا يدري عنه أهله، ولا يدرون عن أحواله، كل ذلك لأجل طلب العلم وتحصيل العلم.
١٦/ فقهاء هذا العصر كثير، وقد انتشروا في الآفاق وتفرقوا في الأقطار.
وفي آخر هذا العصر بدأ التعصب المذهبي، الذي حدث لبعض أتباع الأئمة، وهذا ما برز في الدور الذي بعده، الذي سنتحدث عنه.
١٧/ الدور الخامس: عصر الجمود والتقليد وسد باب الاجتهاد، يبدأ من منتصف القرن الرابع الهجري حتى سقوط الدولة العباسية سنة ٦٥٦هـ على يد المغول الذين اجتاحوا العالم الإسلامي، وأسقطوا الخلافة العباسية، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله.
١٨/ أبرز ملامح هذا العصر: تكونت المذاهب الفقهية في الدور الرابع، وتميز بعضها عن بعض، وصار لكل مذهب أتباع يقلدونه، مما أدى إلى ركود الفقه في هذا العصر الخامس، ووقوف العلماء عند المذاهب الفقهية السابقة، والتمذهب بها، والعكوف على كتبها، والانشغال بما خلفه الأئمة في العصر السابق من فقه وفروع، والتفريع على أصولهم وقواعدهم؛ فكان له أثر في ظهور التقليد والجمود وسد باب الاجتهاد، فانحصر دور الفقهاء في هذا العصر في تنظيم وترتيب الفقه المذهبي، وجمع فتاوى الأئمة، وتعليل أحكامهم، والاستدلال لأقوالهم. وأيضًا تحقيق ما هو المذهب: ما هو المذهب عند الحنفية؟ ما هو المذهب عند المالكية؟ ما هو المذهب عند الشافعية؟ ما هو المذهب عند الحنابلة؟ وترجيح ما هو المذهب، وترجيح آراء علماء المذهب وأقوالهم على آراء وأقوال المذاهب الأخرى.
١٩/ انشغل غالب الفقهاء في هذا العصر بتأليف مناقب الأئمة الأربعة، والدعوة إلى الالتزام بمذاهبهم، ومنع انتقال المقلد من مذهب إلى مذهب.
٢٠/ برز في هذا العصر بشكل كبير فتنة التعصب المذهبي، التي أدت إلى النزاع والخصومة والردود والمجادلات، والتعصب الشديد للمذهب ولو كان مخالفًا للصواب، حتى بلغ بعض شيوخ الحنفية أنه قال: “كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ”. يعني إلى هذه الدرجة!
بل إن من يُسنَد إليه منصب من المناصب الدينية في الدولة العباسية، كالإفتاء والقضاء ونحوها، لا يُعين في وظيفته إلا من كان على مذهبه، من شدة التعصب المذهبي.
بل تعدى الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك؛ تعدى إلى أن بعض أتباع المذاهب الفقهية يتعامل مع المخالف له في المذهب وكأنه على ملة أخرى غير ملة المسلمين، فلا يُزوجه ولا يتزوج منه ولا يصلي خلفه، يعني إلى هذه الدرجة!
٢٠/ هذا الوجه غير المشرق في هذا العصر، يقابله وجه مشرق أيضًا، وهو أنه برز فيه علماء أفذاذ أثْرَوا ساحة الفقه العلمية بما أوجدوا من فنون، وما أحدثوا من مصنفات جديدة خدمت الفقه ونفعت.
٢١/ ظهر فن القواعد الفقهية، حيث وضع الفقهاء قواعد الفقه وصنفوا فيها.
٢٢/ القاعدة الفقهية تعريفها: حكم أغلبي يُتعرف منه حكم الجزئيات الفقهية المباشرة.
٢٣/ من أوائل من صنف في القواعد الفقهية، أبو الحسن الكرخي، حيث صنّف أصول الكرخي التي أخذها من القواعد التي جمعها أبو طاهر الدباس، وشرحها أبو حفص عمر المعروف بنجم الدين النسفي.
٢٤/ أبو طاهر الدباس يُقال إنه أول من وضع قواعد الفقه، وهناك قصة عجيبة تتناقل في كتب أهل العلم عن أبي طاهر الدباس؛ فقد ذكر السيوطي قال: حكى القاضي أبو سعيد الهروي أن بعض أئمة الحنفية بهراة بلغه أن أبا طاهر الدباس إمام الحنفية بما وراء النهر ردّ جميع مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة، فسافر إليه. وكان أبو طاهر الدباس كفيفًا، وكان كل ليلة يكرّر تلك القواعد بمسجده بعدما يخرج الناس منه. فأتى الهروي ودخل المسجد مختفيًا، والتف بحصير، وخرج الناس، وأغلق أبو طاهر الدباس المسجد، وجعل يسرد القواعد. فلما سرد سبع قواعد، عطس الهروي الذي كان مختفياً في الحصير، فأحس به أبو طاهر، فضربه وأخرجه من المسجد. ثم لم يزل يكررها بعد ذلك، فرجع الهروي لأصحابه وتلا هذه القواعد السبع.
ثم بعد ذلك، جمع أبو طاهر الدباس أهم قواعد مذهب أبي حنيفة في سبع عشرة قاعدة. وبعده، كما ذكرنا، أبو الحسن الكرخي، وهو أيضًا من أقران الدباس، والظاهر أن الكرخي أخذ القواعد التي جمعها أبو طاهر الدباس وأضاف إليها.
٢٥/ أيضًا هناك كتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وغيرها من كتب قواعد الفقه التي ظهرت في هذا العصر.
٢٦/ ظهر في هذا العصر علم الخلاف أو ما يُعرف بالفقه المقارن، وهو علم يبحث فيما اختلف فيه العلماء من أحكام بعرض أقوالهم في المسألة الواحدة، وتحديد موضع الخلاف فيها، وأدلة كل فريق، وبيان القول الراجح بالدليل.
وقد بدأت معالم الخلاف المذهبي بين الفقهاء في العصر السابق، عصر التدوين والأئمة المجتهدين، لكن في هذا العصر حُددت معالمه وظهرت ملامحه، وأصبح فنًا من فنون العلم تُصنف فيه المؤلفات.
٢٧/ من أشهر المؤلفات المصنفة في الفقه المقارن أو علم الخلاف، منها مثلًا: "نهاية المطلب في دراية المذهب" لإمام الحرمين الجويني، و"البيان" للعمراني، و"بداية المجتهد" لابن رشد، وغيرها.
٢٨/ لم يكن جميع علماء هذا العصر، كما ذكرنا، متعصبين، بل ظهر طائفة كبيرة من الأئمة الكبار الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، مثل البيهقي، الذي يقول عنه إمام الحرمين: "ما من فقيه إلا وللشافعي عليه منة، إلا أبا بكر البيهقي فإن المنة له على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه".
-كذلك أيضًا أبو بكر البغدادي، الذي ظهر في هذا العصر وله كتاب "التاريخ"، وهو كتاب عظيم.
-كذلك ابن عبد البر، حافظ المغرب، صاحب المصنفات الكثيرة، مثل "التمهيد" و"الاستذكار". -كذلك أيضًا ابن العربي، وله كتب قيمة كـ"عارضة الأحوذي" و"أحكام القرآن".
-كذلك القاضي عياض، وله مصنفات جليلة القدر، منها "الإكمال في شرح صحيح مسلم"، الذي أكمل به كتاب "الْمُعْلِم" للمازري، و"مشارق الأنوار"، وغيرها من المؤلفات.
-كذلك أيضًا ابن هبيرة، والكاساني، وأيضًا ابن رشد، وشيخ الحنابلة الموفق ابن قدامة، الذي صنّف كتاب "المغني"، الذي يعتبر موسوعة عظيمة في الفقه الإسلامي.
-ليس المقصود التتبع والحصر، وإنما المقصود التمثيل الذي يتبين به أن هذا العصر، وإن كان فيه التعصب قد برز، إلا أن فيه جوانب مشرقة، وظهر فيه علماء أجلاء كانت علومهم ومؤلفاتهم مثرية للفقه، كاشفة لمشكلاته، وخادمة وموسّعة في علومه وقواعده.
٢٩/ الدور السادس، هو دور النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد، وهو أطول أدوار الفقه الإسلامي، إذ إنه يبدأ من سقوط الدولة العباسية ويستمر - في قول كثير ممن كتب في تاريخ الفقه - إلى الوقت الحاضر.
٣٠/ المتأمّل لهذا العصر ومستجدّاته، وما كان من التدرّج الفقهي في العصور السابقة، يتبيّن أن تسمية هذه المدة التاريخية بعصر اليقظة الفقهية أو النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد غير دقيقة؛ لأن هذا العصر قد مرّ بمرحلتين متباينتين:
• المرحلة الأولى: مرحلة ضعف وجمود وتقليد وتعصّب مذهبي، امتدادًا للعصر السابق، امتدّت من سقوط الدولة العباسية منتصف القرن السابع إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريبًا.
• المرحلة الثانية: من منتصف القرن الثالث عشر الهجري إلى وقتنا الحاضر، غلبت عليها عوامل النهضة الفقهية وفتح باب الاجتهاد وإحياء الفقه وتجديده، وتعدّدت فيها نواحي النهضة الفقهية.
٣١/ المرحلة الأولى من هذا العصر - من منتصف القرن السابع الهجري إلى منتصف القرن الثالث عشر: فقد دبّ الفتور في نفوس كثير من الفقهاء، وانتشر التقليد، وزاد التعصّب المذهبي. وكان من أسباب ذلك:
-الدعاية القوية التي قام بها أنصار المذاهب الفقهية.
-تدوين المذاهب الفقهية، وهذه الخطوة وإن كانت جيدة في تاريخ الفقه، إلا أن من آثارها أن الفقهاء فيما بعد أخذوا بتلك المدونات، وصرفوا الهمم لفهمها ودراستها، واستغنوا بها عن البحث والاجتهاد.
-التحاسد والوشاية التي تقع من بعض الأقران في بعضهم بعضًا، وإن كانت هذه موجودة في كل عصر ومصر، إلا أنها برزت في هذه الفترة بشكل أظهر.
-الإفراط في اختصار المصنّفات السابقة ونظمها والعكوف عليها.
-الغلوّ في تعظيم الأئمة، والتعصّب لمذاهبهم وآرائهم، حتى وإن كانت مخالفة للصواب والدليل.
فكانت هذه هي العوامل التي أدّت إلى ذلك.
٣٢/ لم يكن جميع علماء هذا العصر على منهج الضعف والجمود والتقليد؛ فظهر في هذا العصر طائفة كبيرة من الأئمّة الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، مثلًا:
• الإمام القرطبي، أبو عبد الله القرطبي.
• الإمام النووي.
• كمال بن هُمَام.
• الإمام العظيم أبو العباس ابن تيمية الحرّاني.
• تلميذه الإمام العظيم ابن القيم الجوزية.
• الحافظ الذهبي.
• ابن مُفلح.
• الحافظ ابن كثير.
• خليل بن إسحاق.
• الشاطبي.
• الحافظ ابن رجب.
• الحافظ ابن حجر.
وغيرهم من أئمة أعلام ظهروا في هذه الفترة، ونفع الله تعالى بهم، واستفاد منهم مَن أتى بعدهم إلى وقتنا الحاضر. والعلماء وطلبة العلم ما زالوا يفيدون من كتب هؤلاء الأئمة