الحمدان
05-05-2025, 01:25 AM
فوائد منتقاة من برنامج مجالس الفقه لفضيلة
الشيخ أ.د سعد بن تركي الخثلان وفقه الله
الاثنين ٣٠-١٠-١٤٤٦هـ(نواقض الوضوء):
١/نواقض الوضوء: “نواقض” جمع ناقض، و”ناقض” اسم فاعل من نقض الشيء إذا أفسده.
فنواقض الوضوء، إذًا، هي مفسداته؛ فهي المفسدات التي إذا طرأت على الوضوء أبطلته.
٢/استقرأ الفقهاء ما ورد في النصوص من نواقض الوضوء، وحصروها، على خلافٍ بينهم في هذا الحصر، فنذكر ما تيسّر من هذه النواقض، ونشير للخلاف فيما وقع فيه الخلاف بين الفقهاء.
٣/أول هذه النواقض: الخارج من السبيلين.
وعندما يقول الفقهاء: “السبيلين”، فمقصودهم مخرج البول ومخرج الغائط، وسُمِّي سبيلًا لأنه يخرج منه الخارج، فيشمل البول والغائط والريح، ويشمل أيضًا خروج المني، فإنه يُنتقَض به الوضوء، كذلك المذي والوَدي:
٤/المذي بالذال: سائلٌ لزجٌ يخرج عند اشتداد الشهوة، والودي بالدال: سائل لزج يميل للبياض، يخرج عقب البول، ويخرج من بعض الناس، وليس من جميعهم. فهذه كلها تدخل في قولنا: “الخارج من السبيلين”.
وأيضًا يشمل ذلك: الدم إذا خرج من السبيلين، فإنه ناقض للوضوء، ومن ذلك: دم الحيض، ودم الاستحاضة، ودم النفاس، ودم الفساد، فكل ما يخرج من السبيلين، فإنه ناقض للوضوء، سواء أكان قليلًا أو كثيرًا، وسواء أكان طاهرًا كالمَني، أو نجسًا كسائر ما يخرج من السبيلين.
٥/الناقض الثاني: خروج النجاسة من بقية البدن، فإن كان بولًا أو غائطًا: نقض مطلقًا.
وهنا نطرح تساؤلًا: كيف يخرج البول والغائط من غير السبيلين؟
هذه المسألة افترضها الفقهاء السابقون، ولم تكن موجودة في زمنهم، وإنما افترضوها افتراضًا، ووقعت في وقتنا الحاضر، وذلك فيمن تُستأصل أمعاؤه، خاصةً فيمن يُصاب بـسرطان القولون – عافانا الله وإياكم –،فيُستأصل القولون، ويُوضَع له مخرج للبول والغائط. فهنا يخرج البول والغائط من غير السبيلين، فانظر إلى عِظَم الفقه الإسلامي، ودقّة الفقهاء، كيف أنهم افترضوا هذه المسألة من قديم، وهي غير موجودة في زمنهم، لكنها وقعت وتحققت في وقتنا الحاضر.
٦/يوجد عدد من الرسائل العلمية في المسائل المُفترضة التي افترضها الفقهاء السابقون، ووقعت في الوقت الحاضر، وكنتُ مشرفًا على إحدى رسائل الدكتوراه في هذا المشروع.
٧/خروج النجاسة من بقية البدن، فإن كان بولًا أو غائطًا: نقض الوضوء مطلقًا.
وإن كان الخارج من غير البول أو الغائط، كـالدم والقيء: فالدم: ينقض الوضوء إذا كان كثيرًا عند الجمهور. وكذلك القيء.
وهذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء؛ فمنهم من ذهب إلى أن خروج الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء، والقول الثاني: أنه لا ينقض الوضوء، لأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على أن خروج الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء.
والقول بأنه لا ينقض الوضوء هو المأثور عن عدد من الصحابة، كـابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وعائشة – رضي الله عنهم –، وقد ورد في هذا عدة آثار تدل على أن خروج الدم من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، وهذا هو القول الراجح، واختاره الإمام ابن تيمية، وجمعٌ من المحققين من أهل العلم.
٨/مسألة نجاسة الدم أو طهارته مسألة مستقلة عن مسألة: هل خروج الدم ينقض الوضوء؟
وبعض الناس يخلط بين المسألتين.
فمسألة خروج الدم من غير السبيلين: القول الراجح أنه لا ينقض الوضوء – كما ذكرنا –، وهو المأثور عن عدد من الصحابة. أما مسألة نجاسة الدم، فالدم نجس، لكن يُعفَى عن يسيره، وقد حُكِي الإجماع على ذلك. فإذا: بين المسألتين فرق.
٩/بعض الفقهاء قالوا: إن القيء ينقض الوضوء، وبعضهم قيَّد ذلك بما إذا فحش.
وقد جاء في حديث أبي الدرداء:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ"، أخرجه الترمذي، فاستدلوا بهذا الحديث وما جاء في معناه.
والقول الثاني: أن خروج القيء لا ينقض الوضوء مطلقًا، قليلًا كان أو كثيرًا، وهذا هو القول الراجح، وذلك لأن الأصل عدم النقض، ولم يرد ما يدل على أن القيء ينقض الوضوء.
وأما حديث ثوبان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ، أو حديث أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ: فهذا الحديث – أولًا – من جهة الإسناد: ضعيف. وعلى تقدير ثبوته، فليس صريحًا في أن القيء ينقض الوضوء. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على كمال النظافة، ولم يُشمّ من النبي صلى الله عليه وسلم رائحة كريهة قط، فهو حريص على طيب الرائحة، وعلى كمال النظافة. فكونه عليه الصلاة والسلام لما قاء توضأ، لا يدل على أن خروج القيء ينقض الوضوء، وإنما ربما نحمل ذلك على الاستحباب. فالقول بالنقض حكم شرعي، يحتاج إلى دليل ظاهر، ينقل الأمر من الأصل، والأصل هو عدم النقض. وليس هناك دليل قوي يدل لذلك، وحديث أبي الدرداء كما ذكرنا: أولًا ضعيف، ولو ثبت، فليس صريحًا في أن خروج القيء ينقض الوضوء.
١٠/ ملخص لما سبق:
• خروج النجاسة من بقية البدن، إن كان بولًا أو غائطًا: ينقض الوضوء مطلقًا.
• وإن كان من غير البول أو الغائط: فإن كان دمًا، فالقول الراجح: أن خروجه لا ينقض الوضوء.
• وإن كان قيئًا، فالقول الراجح: أن خروجه لا ينقض الوضوء.
١١/الناقض الثالث: زوال العقل أو تغطيته، سواء كان بإغماء أو بنوم.
زوال العقل: إما أن يكون بالكلية، كأن يكون بالجنون المُطبِق، أو أن يكون لمدة معينة، كالإغماء ونحوه.
أما زوال العقل بالكلية، كما لو زال بجنون أو بإغماء، بحيث ذهب عقله بالكامل، فينتقض به الوضوء، وقد حكى الإجماع على ذلك: ابن المنذر، والموفق ابن قدامة، والنووي، وغيرهم.
بناءً على هذا: لو أن شخصًا أتى المسجد يريد أن يصلي، ثم أُغمي عليه، وفقد وعيه بالكامل، ثم أفاق، فنقول: قد انتقض وضوءه، وبناءً على ذلك: يلزمه أن يذهب ويتوضأ.
وعلى هذا: من تأتيه نوبات صَرَع حتى يفقد عقله، إذا كان متوضئًا، ثم صُرع، ثم أفاق، فقد انتقض وضوءه.
أيضًا: بعض الناس ربما تأتيه نوبة انخفاض في السكر، فيُصاب بإغماء، ثم إذا أُعطي شيئًا من السكر أفاق، فيكون قد انتقض وضوءه.
فإذا: زوال العقل أو فقد العقل بالكلية، ولو وقتًا يسيرًا، ينتقض به الوضوء، وهذا بإجماع العلماء.
١٢/ أما النوم فقد اختلف الفقهاء في كونه ناقضًا للوضوء، على أقوال كثيرة، من أبرزها:
أ. أنه ناقض للوضوء مطلقًا.
ب. أنه لا ينقض الوضوء مطلقًا.
ج. أنه ينقض الوضوء ما لم يكن يسيرًا عرفًا من جالس أو قائم، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
د. أنه ينقض الوضوء إذا كان النائم مضطجعًا أو مسترخيًا، وهذا مذهب الحنفية، ورواية عند الحنابلة.
هـ. أنه ينتقض الوضوء إذا كان النوم مستغرقًا، يزول معه الشعور، بحيث لو خرج منه شيء لم يحسَّ به، ولا ينقض الوضوء إذا كان النوم غير مستغرق، بحيث لو خرج منه شيء لأحسَّ به، وهذا هو القول الراجح، وهو الأقرب، وهو الذي تجتمع به الأدلة. والدليل لهذا القول:
أولًا: الدليل على أن النوم المستغرق ينقض الوضوء، حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط، وبول، ونوم.
فقرن النوم بالبول والغائط، وهذا يدل على أنه ناقض للوضوء.
أما إذا كان النوم مجرد نعاس، وليس مستغرقًا، بحيث لا يزول معه الشعور بالكلية، ويسمع كلام من حوله لو تكلّم، لكنه لا يفهمه فهمًا تامًّا، فهذا لا ينقض الوضوء.
ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم، ثم يُصلّون ولا يتوضؤون. وجاء أيضًا في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لا يدري، لعله يستغفر، فيسبَّ نفسه”. وقد بوّب عليه البخاري، فقال: “باب الوضوء من النوم، ومن لم يرَ من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءًا”.
فدل هذا على أن مجرد النعاس لا ينقض الوضوء.
-فإذا نخلص من هذا إلى أن القول الراجح في النوم:
• أنه إذا كان نومًا مستغرقًا يزول معه الشعور، فإن هذا النوم ينقض الوضوء.
• أما إذا كان مجرد نعاس خفيف، فلا ينقض الوضوء.
١٣/الفرق بين النعاس وبين النوم المستغرق:
أن النوم المستغرق يزول معه الشعور، والنعاس لا يزول معه الشعور بالكلية.
أيضًا: النوم المستغرق يغلب على العقل، ولا يحس الإنسان بمن حوله، ولذلك إذا استيقظ يتفاجأ، وربما يبقى ثوانٍ حتى يستحضر المكان والزمان، بينما النعاس لا يغلب على العقل، وإنما تفتر الحواس. ولهذا قال الزركشي:
“لا بدّ في النوم الناقض من الغلبة على العقل، فمن سمع كلام غيره وفهمه، فليس بنائم، ومن سمعه ولم يفهمه، فنوم يسير – الذي هو النعاس –، وإن لم يسمعه، فهو نوم مستغرق”.
١٤/ ما يصيب بعض الناس مما يُعرف بـمرض النسيان أو الزهايمر،
هل يدخل تحت هذا الناقض؟
بمعنى: أن من يُصاب بهذا النوع من التعب أو المرض، يُعتبَر ناقضًا في حقه؟
الزهايمر له درجات؛ فإذا كان يَخفُّ معه الضبط بشكل واضح، فيكون قد ارتفع عنه التكليف، ويكون حكمه حكم الصبي المميز.
لأن الصبي إذا كان مراهقًا، وبلغ – يعني قارب البلوغ – مثلًا عمره أربع عشرة سنة،
ومع ذلك رُفِع عنه القلم، مع أن الضبط عنده لا بأس به، فما بالك بهذا الذي بدأ ينسى، وأحيانًا لا يعرف من يأتيه، ولا يعرف من حوله؟ فهذا حكمه حكم الصبي المميز:
إن أتى بالطاعات أُثيب عليها، وإن لم يأتِ بالواجب، فلا شيء عليه. إلا إن كان في أوله أو في مبتدئه، فإذا كان يَضبط الصلاة كاملة، فيُجرى عليه ما ذكرنا، من أنه إذا كان الذي تأتيه نوبات خفيفة، لا يزول معها الشعور بالكلية، ولكن مجرد نسيان، فهذا لا يضر ولا يؤثر. أما إذا كان يذهب عقله بالكلية، ولا يدري أين هو، ثم بعد ذلك يستفيق، فهنا: ينتقض وضوؤه.
١٥/الناقض الرابع من نواقض الوضوء: مسُّ الفرج، ويُعبَّر عنه بعضهم بـ”مسِّ الذكر”. وقد اختلف الفقهاء في كونه ناقضًا للوضوء، وسبب الخلاف: هو الخلاف في الأحاديث المروية في هذا الناقض.
وأبرز ما رُوي في ذلك حديثان:
الحديث الأول: حديث بُسرَة بنت صفوان رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من مسّ ذكرَه فليتوضأ”. وهذا الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الإمام أحمد، وصححه أيضًا البخاري وابن معين، بل قال البخاري: “هو أصح شيء في الباب”.
والحديث الثاني: حديث طلق بن علي رضي الله عنه، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره وهو في الصلاة، فقال:“هل هو إلا بَضعةٌ منك؟ ”أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وقد صححه ابن حبان، وقال ابن المديني: “هو أحسن من حديث بُسرَة”. لاحظ هنا أن قول ابن المديني يقابل قول البخاري. وقال الترمذي: “هذا الحديث – يعني حديث طلق – أحسن شيء رُوي في هذا الباب”. وقال الحافظ ابن عبد الهادي: “هذا الحديث حديث صحيح، ومن ضعَّفه لم يأتِ بحجة”. فالأقرب أنه حديث ثابت، وإن كان بعضهم قد ضعَّفه كـالدارقطني، لكن الأقرب – والله أعلم – هو ثبوت هذا الحديث.
ظاهر الحديثين – حديث بُسرَة وحديث طلق – ظاهرهما التعارض، لأن حديث بُسرَة يدل على أن مس الذكر ينقض الوضوء، وحديث طلق يدل على أنه لا ينقض الوضوء.
ومن هنا اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أن مس الذكر ينقض الوضوء مطلقًا، وإلى هذا ذهب جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بحديث بُسرَة السابق: “من مسّ ذكره فليتوضأ”، وما جاء في معناه.
القول الثاني: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء مطلقًا، لكن يُستحب الوضوء منه، وهذا هو مذهب الحنفية، واختاره ابن تيمية رحمه الله، واستدلوا بحديث طلق السابق: “هل هو إلا بضعة منك؟”
القول الثالث: التفصيل: فإن كان مسَّه بشهوة: ينقض الوضوء،
وإن كان بغير شهوة: لا ينقض الوضوء، وهذا رواية عند الحنابلة، وهذا القول الأخير هو الأقرب – والله أعلم – في هذه المسألة، لكونه القول الذي تجتمع به الأدلة الواردة.
فيُحمَل حديث بُسرَة: “من مس ذكره فليتوضأ”، على مس الذكر بشهوة، ويُحمَل حديث طلق: “هل هو إلا بضعة منك؟” على مس الذكر بغير شهوة.
لأن قوله: “هل هو إلا بضعة منك؟” يعني: هل هو إلا قطعة منك، عضو منك كسائر الأعضاء؟ وهذا إنما يَرد عند مس الذكر بغير شهوة، فيكون مسه كمس بقية الأعضاء.
ويدل لهذا: أنه سُئل عن مس الذكر وهو في الصلاة، ومعلوم أن الذي يمس ذكره في الصلاة يمسه بدون شهوة، كانوا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام يُصلّون وعليهم الأُزُر، وأحيانًا الإنسان عندما يُرتّب أو يُمسك بإزاره، قد تقع يده على الذكر، ومن هنا ورد السؤال.
فهذه القرائن تدل على أن المقصود بحديث طلق بن علي: مس الذكر بدون شهوة.
ولأن الحكمة – والله أعلم – من كون مس الذكر ينقض الوضوء:
أنه إذا مسه لشهوة، كان ذلك مظنة لخروج المذي، والمذي يخرج من الإنسان من غير أن يحسَّ بخروجه غالبًا، بخلاف غيره.
وعلى هذا نقول: القول الراجح أن مس الذكر إذا كان بشهوة: ينقض الوضوء، وإذا كان بغير شهوة: لا ينقض الوضوء.
وعلى هذا: من كان مثلًا يلبس سراويله، ثم مس ذكره من غير قصد، فعلى القول الراجح: أن هذا المس لا ينقض الوضوء.
١٦/المرأة إذا كانت تغسل طفلها، ومست ذكره للتنظيف ونحو ذلك، فهنا لا يُتصور الشهوة أصلًا، وعلى ذلك: فلا يُنتقض وضوؤها بناءً على القول الراجح.
١٧/الناقض الخامس من نواقض الوضوء:
مسُّ بشرة الذكر الأنثى، أو الأنثى الذكر، وهذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء، وسبب الخلاف: هو الخلاف في المقصود باللَّمس في قول الله عز وجل:
{أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا}.
فمن فسّر “اللمس” بأنه المس باليد، قال: إن مس المرأة ناقض للوضوء، ومن فسّره بأن المقصود به الجماع، قال: إن مجرد مسّ المرأة ليس بناقض للوضوء.
واللمس معنى مشترك، يُطلق على الجماع، ويُطلق على مسّ اليد للشيء، ومن هنا اختلف الفقهاء في كون مسّ الذكر للأنثى، أو الأنثى للذكر، ناقضًا للوضوء، فاختلفوا في هذه المسألة على أقوال:
• القول الأول: أن مسّ الرجل للمرأة ليس بناقض للوضوء مطلقًا، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وهذا هو المذهب عند الحنفية.
• القول الثاني: أن مسّ المرأة ناقض للوضوء مطلقًا، حتى ولو كان بغير شهوة، وهذا هو المذهب عند الشافعية.
• القول الثالث: التفصيل، وهو أن مسّ المرأة إذا كان بشهوة: فإنه ينقض الوضوء، وإذا كان بغير شهوة: فلا ينقض الوضوء، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة.
القائلون بأنه ليس بناقض للوضوء مطلقًا استدلوا بـحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ،
كما عند أبي داود وأبي داود وأحمد.
فقالوا: هذا نصٌّ في أنه ليس بناقض للوضوء. ثم أيضًا قالوا: الأصل عدم النقض.
وأما الآية الكريمة، فالمقصود باللمس فيها: الجماع، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
أما القائلون بأن مسّ المرأة ناقض للوضوء مطلقًا،
كما هو المذهب عند الشافعية، فاستدلوا بالآية الكريمة:{أو لامستم النساء}،وجاء في قراءة سبعية: {أو لمستم}،فقالوا: إن المقصود باللمس، اللمس باليد. وقد رُوي عن ابن مسعود تفسير “الملامسة” بأنها اللمس بما دون الجماع، ولكن هذا الاستدلال محل نظر.
فالصحيح في تفسير الآية – كما قال ابن عباس رضي الله عنهما –أن ربكم حييٌّ كريم، يكني، يعني أن المقصود بقوله: {أو لامستم النساء}، أن المقصود به: الجماع.
وأما القائلون بأن مسّ المرأة إذا كان بشهوة، فهو ناقض للوضوء، وإذا كان بغير شهوة، فليس بناقض، فقد جمعوا بين أدلة القولين السابقين، فقالوا: إذا كان بشهوة، فهو ناقض للوضوء، وحملوا الآية: {أو لامستم النساء}، على أن المراد بها اللمس بشهوة.
أما إذا كان بغير شهوة، فلا ينقض الوضوء، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يلمس بعض نسائه ويصلي ولا يتوضأ، بل كان أحيانًا في أثناء الصلاة – كما قالت عائشة رضي الله عنها –:
“كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح”، فمعناه: أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما يضع يده على رجل عائشة، فهذا مسٌّ للمرأة، ومع ذلك لم يكن يقطع صلاته، بل هو مستمر فيها.
-عند الموازنة بين الأقوال والأدلة في هذه المسألة:
القول الراجح – والله أعلم – هو القول الأول، وهو أن مسّ المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وهذا الذي اختاره جمع من المحققين من أهل العلم، وذلك لأن الأصل عدم النقض، حتى يرد دليل صحيح يدل على النقض، ولم يرد دليل صحيح صريح يدل على أن مجرد لمس المرأة ينقض الوضوء.
وأما قول الله تعالى: {أو لامستم النساء}، فالمراد بذلك الجماع، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:
“إيجاب الوضوء من مسّ النساء بغير شهوة: قولٌ شاذ، ليس له أصل في الكتاب، ولا في السنة، ولا أثر عن أحد من سلف الأمة، ولا هو موافق لأصول الشريعة”.
١٨/الناقض السادس: غسل الميت.
استدل أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ”.
وهذا الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، لكنه حديث ضعيف، لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في معناه عدة أحاديث، كلها ضعيفة.
والقائلون بأن تغسيل الميت ينقض الوضوء هم فقهاء الحنابلة فقط، ولهذا فهذا القول من المفردات عندهم، بينما ذهب جماهير الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وهو رواية أيضًا عند الحنابلة، إلى أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء. وهذا هو القول الراجح، لأنه ليس هناك دليل صحيح صريح يدل على أن تغسيل الميت ينقض الوضوء، وجميع ما رُوي في ذلك من أحاديث تدل على أن تغسيل الميت ينقض الوضوء لا تثبت من جهة الصناعة الحديثية، ولهذا قال أبو داود:
“قال الإمام أحمد: ليس يثبت فيه حديث”، يعني: ليس يثبت في تغسيل الميت حديث.
فعلى هذا: القول الراجح هو قول الجمهور، وهو أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء.
١٩/الناقض السابع من نواقض الوضوء: أكل لحم الإبل.
والقول بأنه من نواقض الوضوء: من مفردات الحنابلة، وذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه لا ينقض الوضوء.
والقول الراجح هو قول الحنابلة في هذه المسألة، وذلك لورود أدلة صحيحة صريحة تدل على أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء.
قال الإمام أحمد: فيه حديثان صحيحان: حديث البراء، وحديث جابر.
• حديث جابر: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: “أتوضأ من لحوم الغنم؟” قال: “إن شئت”. قال: “أتوضأ من لحوم الإبل؟” قال: “نعم”.
• وحديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: “توضؤوا منها”، وسُئل عن لحوم الغنم، فقال: “لا تتوضؤوا منها”. حديث البراء أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وسنده جيد، بينما حديث جابر رواه مسلم. ففي المسألة أحاديث صحيحة.
الجمهور ليس لهم دليل سوى حديث جابر:
“كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار”،
أخرجه أبو داود، والنسائي.
قالوا: هذا الحديث عام في جميع ما مسته النار، فيشمل ذلك لحم الإبل، ويرون أن هذا الحديث ناسخ لحديث جابر بن سمرة، الذي استدل به أصحاب القول الأول.
والأظهر – والله أعلم – هو القول الأول، وهو أن أكل لحم الإبل ناقض للوضوء.
وأما ما استدل به الجمهور من حديث جابر: فحديث جابر حديث عام في “ترك الوضوء مما مسته النار”، وحديث جابر بن سمرة، والبراء بن عازب، في الوضوء من لحوم الإبل: حديث خاص. والقاعدة المقررة عند الأصوليين: أن الخاص يُخصص به العام، فـيُحمل حديث جابر على ما سوى صورة التخصيص. ومن شروط النسخ: تعذر الجمع بين النصين. وهنا يمكن الجمع، وعلى ذلك نقول: القول الراجح – والله أعلم – هو أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء.
الشيخ أ.د سعد بن تركي الخثلان وفقه الله
الاثنين ٣٠-١٠-١٤٤٦هـ(نواقض الوضوء):
١/نواقض الوضوء: “نواقض” جمع ناقض، و”ناقض” اسم فاعل من نقض الشيء إذا أفسده.
فنواقض الوضوء، إذًا، هي مفسداته؛ فهي المفسدات التي إذا طرأت على الوضوء أبطلته.
٢/استقرأ الفقهاء ما ورد في النصوص من نواقض الوضوء، وحصروها، على خلافٍ بينهم في هذا الحصر، فنذكر ما تيسّر من هذه النواقض، ونشير للخلاف فيما وقع فيه الخلاف بين الفقهاء.
٣/أول هذه النواقض: الخارج من السبيلين.
وعندما يقول الفقهاء: “السبيلين”، فمقصودهم مخرج البول ومخرج الغائط، وسُمِّي سبيلًا لأنه يخرج منه الخارج، فيشمل البول والغائط والريح، ويشمل أيضًا خروج المني، فإنه يُنتقَض به الوضوء، كذلك المذي والوَدي:
٤/المذي بالذال: سائلٌ لزجٌ يخرج عند اشتداد الشهوة، والودي بالدال: سائل لزج يميل للبياض، يخرج عقب البول، ويخرج من بعض الناس، وليس من جميعهم. فهذه كلها تدخل في قولنا: “الخارج من السبيلين”.
وأيضًا يشمل ذلك: الدم إذا خرج من السبيلين، فإنه ناقض للوضوء، ومن ذلك: دم الحيض، ودم الاستحاضة، ودم النفاس، ودم الفساد، فكل ما يخرج من السبيلين، فإنه ناقض للوضوء، سواء أكان قليلًا أو كثيرًا، وسواء أكان طاهرًا كالمَني، أو نجسًا كسائر ما يخرج من السبيلين.
٥/الناقض الثاني: خروج النجاسة من بقية البدن، فإن كان بولًا أو غائطًا: نقض مطلقًا.
وهنا نطرح تساؤلًا: كيف يخرج البول والغائط من غير السبيلين؟
هذه المسألة افترضها الفقهاء السابقون، ولم تكن موجودة في زمنهم، وإنما افترضوها افتراضًا، ووقعت في وقتنا الحاضر، وذلك فيمن تُستأصل أمعاؤه، خاصةً فيمن يُصاب بـسرطان القولون – عافانا الله وإياكم –،فيُستأصل القولون، ويُوضَع له مخرج للبول والغائط. فهنا يخرج البول والغائط من غير السبيلين، فانظر إلى عِظَم الفقه الإسلامي، ودقّة الفقهاء، كيف أنهم افترضوا هذه المسألة من قديم، وهي غير موجودة في زمنهم، لكنها وقعت وتحققت في وقتنا الحاضر.
٦/يوجد عدد من الرسائل العلمية في المسائل المُفترضة التي افترضها الفقهاء السابقون، ووقعت في الوقت الحاضر، وكنتُ مشرفًا على إحدى رسائل الدكتوراه في هذا المشروع.
٧/خروج النجاسة من بقية البدن، فإن كان بولًا أو غائطًا: نقض الوضوء مطلقًا.
وإن كان الخارج من غير البول أو الغائط، كـالدم والقيء: فالدم: ينقض الوضوء إذا كان كثيرًا عند الجمهور. وكذلك القيء.
وهذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء؛ فمنهم من ذهب إلى أن خروج الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء، والقول الثاني: أنه لا ينقض الوضوء، لأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على أن خروج الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء.
والقول بأنه لا ينقض الوضوء هو المأثور عن عدد من الصحابة، كـابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وعائشة – رضي الله عنهم –، وقد ورد في هذا عدة آثار تدل على أن خروج الدم من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، وهذا هو القول الراجح، واختاره الإمام ابن تيمية، وجمعٌ من المحققين من أهل العلم.
٨/مسألة نجاسة الدم أو طهارته مسألة مستقلة عن مسألة: هل خروج الدم ينقض الوضوء؟
وبعض الناس يخلط بين المسألتين.
فمسألة خروج الدم من غير السبيلين: القول الراجح أنه لا ينقض الوضوء – كما ذكرنا –، وهو المأثور عن عدد من الصحابة. أما مسألة نجاسة الدم، فالدم نجس، لكن يُعفَى عن يسيره، وقد حُكِي الإجماع على ذلك. فإذا: بين المسألتين فرق.
٩/بعض الفقهاء قالوا: إن القيء ينقض الوضوء، وبعضهم قيَّد ذلك بما إذا فحش.
وقد جاء في حديث أبي الدرداء:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ"، أخرجه الترمذي، فاستدلوا بهذا الحديث وما جاء في معناه.
والقول الثاني: أن خروج القيء لا ينقض الوضوء مطلقًا، قليلًا كان أو كثيرًا، وهذا هو القول الراجح، وذلك لأن الأصل عدم النقض، ولم يرد ما يدل على أن القيء ينقض الوضوء.
وأما حديث ثوبان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ، أو حديث أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ: فهذا الحديث – أولًا – من جهة الإسناد: ضعيف. وعلى تقدير ثبوته، فليس صريحًا في أن القيء ينقض الوضوء. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على كمال النظافة، ولم يُشمّ من النبي صلى الله عليه وسلم رائحة كريهة قط، فهو حريص على طيب الرائحة، وعلى كمال النظافة. فكونه عليه الصلاة والسلام لما قاء توضأ، لا يدل على أن خروج القيء ينقض الوضوء، وإنما ربما نحمل ذلك على الاستحباب. فالقول بالنقض حكم شرعي، يحتاج إلى دليل ظاهر، ينقل الأمر من الأصل، والأصل هو عدم النقض. وليس هناك دليل قوي يدل لذلك، وحديث أبي الدرداء كما ذكرنا: أولًا ضعيف، ولو ثبت، فليس صريحًا في أن خروج القيء ينقض الوضوء.
١٠/ ملخص لما سبق:
• خروج النجاسة من بقية البدن، إن كان بولًا أو غائطًا: ينقض الوضوء مطلقًا.
• وإن كان من غير البول أو الغائط: فإن كان دمًا، فالقول الراجح: أن خروجه لا ينقض الوضوء.
• وإن كان قيئًا، فالقول الراجح: أن خروجه لا ينقض الوضوء.
١١/الناقض الثالث: زوال العقل أو تغطيته، سواء كان بإغماء أو بنوم.
زوال العقل: إما أن يكون بالكلية، كأن يكون بالجنون المُطبِق، أو أن يكون لمدة معينة، كالإغماء ونحوه.
أما زوال العقل بالكلية، كما لو زال بجنون أو بإغماء، بحيث ذهب عقله بالكامل، فينتقض به الوضوء، وقد حكى الإجماع على ذلك: ابن المنذر، والموفق ابن قدامة، والنووي، وغيرهم.
بناءً على هذا: لو أن شخصًا أتى المسجد يريد أن يصلي، ثم أُغمي عليه، وفقد وعيه بالكامل، ثم أفاق، فنقول: قد انتقض وضوءه، وبناءً على ذلك: يلزمه أن يذهب ويتوضأ.
وعلى هذا: من تأتيه نوبات صَرَع حتى يفقد عقله، إذا كان متوضئًا، ثم صُرع، ثم أفاق، فقد انتقض وضوءه.
أيضًا: بعض الناس ربما تأتيه نوبة انخفاض في السكر، فيُصاب بإغماء، ثم إذا أُعطي شيئًا من السكر أفاق، فيكون قد انتقض وضوءه.
فإذا: زوال العقل أو فقد العقل بالكلية، ولو وقتًا يسيرًا، ينتقض به الوضوء، وهذا بإجماع العلماء.
١٢/ أما النوم فقد اختلف الفقهاء في كونه ناقضًا للوضوء، على أقوال كثيرة، من أبرزها:
أ. أنه ناقض للوضوء مطلقًا.
ب. أنه لا ينقض الوضوء مطلقًا.
ج. أنه ينقض الوضوء ما لم يكن يسيرًا عرفًا من جالس أو قائم، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
د. أنه ينقض الوضوء إذا كان النائم مضطجعًا أو مسترخيًا، وهذا مذهب الحنفية، ورواية عند الحنابلة.
هـ. أنه ينتقض الوضوء إذا كان النوم مستغرقًا، يزول معه الشعور، بحيث لو خرج منه شيء لم يحسَّ به، ولا ينقض الوضوء إذا كان النوم غير مستغرق، بحيث لو خرج منه شيء لأحسَّ به، وهذا هو القول الراجح، وهو الأقرب، وهو الذي تجتمع به الأدلة. والدليل لهذا القول:
أولًا: الدليل على أن النوم المستغرق ينقض الوضوء، حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط، وبول، ونوم.
فقرن النوم بالبول والغائط، وهذا يدل على أنه ناقض للوضوء.
أما إذا كان النوم مجرد نعاس، وليس مستغرقًا، بحيث لا يزول معه الشعور بالكلية، ويسمع كلام من حوله لو تكلّم، لكنه لا يفهمه فهمًا تامًّا، فهذا لا ينقض الوضوء.
ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم، ثم يُصلّون ولا يتوضؤون. وجاء أيضًا في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لا يدري، لعله يستغفر، فيسبَّ نفسه”. وقد بوّب عليه البخاري، فقال: “باب الوضوء من النوم، ومن لم يرَ من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءًا”.
فدل هذا على أن مجرد النعاس لا ينقض الوضوء.
-فإذا نخلص من هذا إلى أن القول الراجح في النوم:
• أنه إذا كان نومًا مستغرقًا يزول معه الشعور، فإن هذا النوم ينقض الوضوء.
• أما إذا كان مجرد نعاس خفيف، فلا ينقض الوضوء.
١٣/الفرق بين النعاس وبين النوم المستغرق:
أن النوم المستغرق يزول معه الشعور، والنعاس لا يزول معه الشعور بالكلية.
أيضًا: النوم المستغرق يغلب على العقل، ولا يحس الإنسان بمن حوله، ولذلك إذا استيقظ يتفاجأ، وربما يبقى ثوانٍ حتى يستحضر المكان والزمان، بينما النعاس لا يغلب على العقل، وإنما تفتر الحواس. ولهذا قال الزركشي:
“لا بدّ في النوم الناقض من الغلبة على العقل، فمن سمع كلام غيره وفهمه، فليس بنائم، ومن سمعه ولم يفهمه، فنوم يسير – الذي هو النعاس –، وإن لم يسمعه، فهو نوم مستغرق”.
١٤/ ما يصيب بعض الناس مما يُعرف بـمرض النسيان أو الزهايمر،
هل يدخل تحت هذا الناقض؟
بمعنى: أن من يُصاب بهذا النوع من التعب أو المرض، يُعتبَر ناقضًا في حقه؟
الزهايمر له درجات؛ فإذا كان يَخفُّ معه الضبط بشكل واضح، فيكون قد ارتفع عنه التكليف، ويكون حكمه حكم الصبي المميز.
لأن الصبي إذا كان مراهقًا، وبلغ – يعني قارب البلوغ – مثلًا عمره أربع عشرة سنة،
ومع ذلك رُفِع عنه القلم، مع أن الضبط عنده لا بأس به، فما بالك بهذا الذي بدأ ينسى، وأحيانًا لا يعرف من يأتيه، ولا يعرف من حوله؟ فهذا حكمه حكم الصبي المميز:
إن أتى بالطاعات أُثيب عليها، وإن لم يأتِ بالواجب، فلا شيء عليه. إلا إن كان في أوله أو في مبتدئه، فإذا كان يَضبط الصلاة كاملة، فيُجرى عليه ما ذكرنا، من أنه إذا كان الذي تأتيه نوبات خفيفة، لا يزول معها الشعور بالكلية، ولكن مجرد نسيان، فهذا لا يضر ولا يؤثر. أما إذا كان يذهب عقله بالكلية، ولا يدري أين هو، ثم بعد ذلك يستفيق، فهنا: ينتقض وضوؤه.
١٥/الناقض الرابع من نواقض الوضوء: مسُّ الفرج، ويُعبَّر عنه بعضهم بـ”مسِّ الذكر”. وقد اختلف الفقهاء في كونه ناقضًا للوضوء، وسبب الخلاف: هو الخلاف في الأحاديث المروية في هذا الناقض.
وأبرز ما رُوي في ذلك حديثان:
الحديث الأول: حديث بُسرَة بنت صفوان رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من مسّ ذكرَه فليتوضأ”. وهذا الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الإمام أحمد، وصححه أيضًا البخاري وابن معين، بل قال البخاري: “هو أصح شيء في الباب”.
والحديث الثاني: حديث طلق بن علي رضي الله عنه، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره وهو في الصلاة، فقال:“هل هو إلا بَضعةٌ منك؟ ”أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وقد صححه ابن حبان، وقال ابن المديني: “هو أحسن من حديث بُسرَة”. لاحظ هنا أن قول ابن المديني يقابل قول البخاري. وقال الترمذي: “هذا الحديث – يعني حديث طلق – أحسن شيء رُوي في هذا الباب”. وقال الحافظ ابن عبد الهادي: “هذا الحديث حديث صحيح، ومن ضعَّفه لم يأتِ بحجة”. فالأقرب أنه حديث ثابت، وإن كان بعضهم قد ضعَّفه كـالدارقطني، لكن الأقرب – والله أعلم – هو ثبوت هذا الحديث.
ظاهر الحديثين – حديث بُسرَة وحديث طلق – ظاهرهما التعارض، لأن حديث بُسرَة يدل على أن مس الذكر ينقض الوضوء، وحديث طلق يدل على أنه لا ينقض الوضوء.
ومن هنا اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أن مس الذكر ينقض الوضوء مطلقًا، وإلى هذا ذهب جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بحديث بُسرَة السابق: “من مسّ ذكره فليتوضأ”، وما جاء في معناه.
القول الثاني: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء مطلقًا، لكن يُستحب الوضوء منه، وهذا هو مذهب الحنفية، واختاره ابن تيمية رحمه الله، واستدلوا بحديث طلق السابق: “هل هو إلا بضعة منك؟”
القول الثالث: التفصيل: فإن كان مسَّه بشهوة: ينقض الوضوء،
وإن كان بغير شهوة: لا ينقض الوضوء، وهذا رواية عند الحنابلة، وهذا القول الأخير هو الأقرب – والله أعلم – في هذه المسألة، لكونه القول الذي تجتمع به الأدلة الواردة.
فيُحمَل حديث بُسرَة: “من مس ذكره فليتوضأ”، على مس الذكر بشهوة، ويُحمَل حديث طلق: “هل هو إلا بضعة منك؟” على مس الذكر بغير شهوة.
لأن قوله: “هل هو إلا بضعة منك؟” يعني: هل هو إلا قطعة منك، عضو منك كسائر الأعضاء؟ وهذا إنما يَرد عند مس الذكر بغير شهوة، فيكون مسه كمس بقية الأعضاء.
ويدل لهذا: أنه سُئل عن مس الذكر وهو في الصلاة، ومعلوم أن الذي يمس ذكره في الصلاة يمسه بدون شهوة، كانوا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام يُصلّون وعليهم الأُزُر، وأحيانًا الإنسان عندما يُرتّب أو يُمسك بإزاره، قد تقع يده على الذكر، ومن هنا ورد السؤال.
فهذه القرائن تدل على أن المقصود بحديث طلق بن علي: مس الذكر بدون شهوة.
ولأن الحكمة – والله أعلم – من كون مس الذكر ينقض الوضوء:
أنه إذا مسه لشهوة، كان ذلك مظنة لخروج المذي، والمذي يخرج من الإنسان من غير أن يحسَّ بخروجه غالبًا، بخلاف غيره.
وعلى هذا نقول: القول الراجح أن مس الذكر إذا كان بشهوة: ينقض الوضوء، وإذا كان بغير شهوة: لا ينقض الوضوء.
وعلى هذا: من كان مثلًا يلبس سراويله، ثم مس ذكره من غير قصد، فعلى القول الراجح: أن هذا المس لا ينقض الوضوء.
١٦/المرأة إذا كانت تغسل طفلها، ومست ذكره للتنظيف ونحو ذلك، فهنا لا يُتصور الشهوة أصلًا، وعلى ذلك: فلا يُنتقض وضوؤها بناءً على القول الراجح.
١٧/الناقض الخامس من نواقض الوضوء:
مسُّ بشرة الذكر الأنثى، أو الأنثى الذكر، وهذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء، وسبب الخلاف: هو الخلاف في المقصود باللَّمس في قول الله عز وجل:
{أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا}.
فمن فسّر “اللمس” بأنه المس باليد، قال: إن مس المرأة ناقض للوضوء، ومن فسّره بأن المقصود به الجماع، قال: إن مجرد مسّ المرأة ليس بناقض للوضوء.
واللمس معنى مشترك، يُطلق على الجماع، ويُطلق على مسّ اليد للشيء، ومن هنا اختلف الفقهاء في كون مسّ الذكر للأنثى، أو الأنثى للذكر، ناقضًا للوضوء، فاختلفوا في هذه المسألة على أقوال:
• القول الأول: أن مسّ الرجل للمرأة ليس بناقض للوضوء مطلقًا، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وهذا هو المذهب عند الحنفية.
• القول الثاني: أن مسّ المرأة ناقض للوضوء مطلقًا، حتى ولو كان بغير شهوة، وهذا هو المذهب عند الشافعية.
• القول الثالث: التفصيل، وهو أن مسّ المرأة إذا كان بشهوة: فإنه ينقض الوضوء، وإذا كان بغير شهوة: فلا ينقض الوضوء، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة.
القائلون بأنه ليس بناقض للوضوء مطلقًا استدلوا بـحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ،
كما عند أبي داود وأبي داود وأحمد.
فقالوا: هذا نصٌّ في أنه ليس بناقض للوضوء. ثم أيضًا قالوا: الأصل عدم النقض.
وأما الآية الكريمة، فالمقصود باللمس فيها: الجماع، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
أما القائلون بأن مسّ المرأة ناقض للوضوء مطلقًا،
كما هو المذهب عند الشافعية، فاستدلوا بالآية الكريمة:{أو لامستم النساء}،وجاء في قراءة سبعية: {أو لمستم}،فقالوا: إن المقصود باللمس، اللمس باليد. وقد رُوي عن ابن مسعود تفسير “الملامسة” بأنها اللمس بما دون الجماع، ولكن هذا الاستدلال محل نظر.
فالصحيح في تفسير الآية – كما قال ابن عباس رضي الله عنهما –أن ربكم حييٌّ كريم، يكني، يعني أن المقصود بقوله: {أو لامستم النساء}، أن المقصود به: الجماع.
وأما القائلون بأن مسّ المرأة إذا كان بشهوة، فهو ناقض للوضوء، وإذا كان بغير شهوة، فليس بناقض، فقد جمعوا بين أدلة القولين السابقين، فقالوا: إذا كان بشهوة، فهو ناقض للوضوء، وحملوا الآية: {أو لامستم النساء}، على أن المراد بها اللمس بشهوة.
أما إذا كان بغير شهوة، فلا ينقض الوضوء، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يلمس بعض نسائه ويصلي ولا يتوضأ، بل كان أحيانًا في أثناء الصلاة – كما قالت عائشة رضي الله عنها –:
“كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح”، فمعناه: أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما يضع يده على رجل عائشة، فهذا مسٌّ للمرأة، ومع ذلك لم يكن يقطع صلاته، بل هو مستمر فيها.
-عند الموازنة بين الأقوال والأدلة في هذه المسألة:
القول الراجح – والله أعلم – هو القول الأول، وهو أن مسّ المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وهذا الذي اختاره جمع من المحققين من أهل العلم، وذلك لأن الأصل عدم النقض، حتى يرد دليل صحيح يدل على النقض، ولم يرد دليل صحيح صريح يدل على أن مجرد لمس المرأة ينقض الوضوء.
وأما قول الله تعالى: {أو لامستم النساء}، فالمراد بذلك الجماع، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:
“إيجاب الوضوء من مسّ النساء بغير شهوة: قولٌ شاذ، ليس له أصل في الكتاب، ولا في السنة، ولا أثر عن أحد من سلف الأمة، ولا هو موافق لأصول الشريعة”.
١٨/الناقض السادس: غسل الميت.
استدل أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ”.
وهذا الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، لكنه حديث ضعيف، لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في معناه عدة أحاديث، كلها ضعيفة.
والقائلون بأن تغسيل الميت ينقض الوضوء هم فقهاء الحنابلة فقط، ولهذا فهذا القول من المفردات عندهم، بينما ذهب جماهير الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وهو رواية أيضًا عند الحنابلة، إلى أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء. وهذا هو القول الراجح، لأنه ليس هناك دليل صحيح صريح يدل على أن تغسيل الميت ينقض الوضوء، وجميع ما رُوي في ذلك من أحاديث تدل على أن تغسيل الميت ينقض الوضوء لا تثبت من جهة الصناعة الحديثية، ولهذا قال أبو داود:
“قال الإمام أحمد: ليس يثبت فيه حديث”، يعني: ليس يثبت في تغسيل الميت حديث.
فعلى هذا: القول الراجح هو قول الجمهور، وهو أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء.
١٩/الناقض السابع من نواقض الوضوء: أكل لحم الإبل.
والقول بأنه من نواقض الوضوء: من مفردات الحنابلة، وذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه لا ينقض الوضوء.
والقول الراجح هو قول الحنابلة في هذه المسألة، وذلك لورود أدلة صحيحة صريحة تدل على أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء.
قال الإمام أحمد: فيه حديثان صحيحان: حديث البراء، وحديث جابر.
• حديث جابر: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: “أتوضأ من لحوم الغنم؟” قال: “إن شئت”. قال: “أتوضأ من لحوم الإبل؟” قال: “نعم”.
• وحديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: “توضؤوا منها”، وسُئل عن لحوم الغنم، فقال: “لا تتوضؤوا منها”. حديث البراء أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وسنده جيد، بينما حديث جابر رواه مسلم. ففي المسألة أحاديث صحيحة.
الجمهور ليس لهم دليل سوى حديث جابر:
“كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار”،
أخرجه أبو داود، والنسائي.
قالوا: هذا الحديث عام في جميع ما مسته النار، فيشمل ذلك لحم الإبل، ويرون أن هذا الحديث ناسخ لحديث جابر بن سمرة، الذي استدل به أصحاب القول الأول.
والأظهر – والله أعلم – هو القول الأول، وهو أن أكل لحم الإبل ناقض للوضوء.
وأما ما استدل به الجمهور من حديث جابر: فحديث جابر حديث عام في “ترك الوضوء مما مسته النار”، وحديث جابر بن سمرة، والبراء بن عازب، في الوضوء من لحوم الإبل: حديث خاص. والقاعدة المقررة عند الأصوليين: أن الخاص يُخصص به العام، فـيُحمل حديث جابر على ما سوى صورة التخصيص. ومن شروط النسخ: تعذر الجمع بين النصين. وهنا يمكن الجمع، وعلى ذلك نقول: القول الراجح – والله أعلم – هو أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء.