منتديات قبائل شمران الرسمية


المنتدى العام مخصص للمشاركات العامة والمتنوعة)(تطوير الذات)(سوق الأسهم)

إضافة رد

 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع

قديم 01-05-2009, 11:06 AM   #1
 
الصورة الرمزية امير القلوب
 

امير القلوب is on a distinguished road
افتراضي فريد الأطرش-الفصل الثامن- ناريمان

التاريخ: Friday, November 19
© SyriaSpace

شبت الثورة في مصر ناراً تطهر أرضها من كل فساد ورجس ، وخرج فاروق فطويت صفحة عار لتبدأ صفحة مجد وشرف ، وذهبت ناريمان إلى حيث قذفته الباخرة المصرية على شاطئ روما ، وهي تحمل بين يديها ولي العهد ، آنذاك _ ابنها أحمد فؤاد _ يا لبختها المسكينة التي اختطفها فاروق من خطيبها ليضعها على عرش فإذا بالأقدار تنحيها عن العرش وتربطها إلى عجلة من صار بعد الملك أفاقاً يرتاد علب الليل ويغرس كيانه في الفضائح !

ولم تطق بقاء معه فعادت .. وذهب فريد ليزورها ! إن هذا البيت الكريم الذي فتح له بابه وهو في أوج العز يستحق منه أن يطرقه ويتردد عليه بعد أن دالت دولته .. إنه مدين لهذا البيت أنه ارتقى به كفنان إلى مستوى الملوك والأمراء في وقت كان ذلك المستوى هو الرفعة كلها والجلال كله ، فكيف يتنكر له بعد أن تنكست أعلامه وأطفئت أنواره وفقد شموخه ، وكان كل الناس يتجنبون هذا البيت خشية أن يظن بهم الولاء لعهد ظالم ، ولكن فريداً لم يخف .. إنه ذاهب بمعنى الوفاء ، ولو سئل لماذا تذهب لقالها بشجاعة أنه لا يتنكر لصديق في محنة ، ولكن أحداً لم يسأله ، وشوهدت سيارته واقفة بالباب فكتبت الصحف النبأ .. ولم يثنه هذا عن زيارة البيت الذي أصبح يتطلع إليه بأمل يختمر في قلبه كأنه جنين ! ومرة طلبت إليه ناريمان أن ترى فيلم (( لحن الخلود )) في عرض خاص .. فتحدث إلى المسئولين في ستديو مصر فوافقوه على أن يعطوه صالة العرض لساعات ، وحين ذهب إلى الاستديو ومعه ناريمان لم يجد واحداً منهم هناك ، كلهم فروا خيفة أن يقال أنهم استقبلوا ناريمان وعائلتها ، ووقع فريد في الحرج ولكنه أشاع في الجلسة ظرفاً أنساها ما يحدث
حولها !




وكانت الأم على عادتها في الحفاوة به كلما أقبل ، والتأكيد عليه بالعودة كلما رحل ، وكان قلبه ينعطف _ من حيث لا يدري _ إلى ناريمان الحزينة ، ويتمنى لو يستطيع إسعادها ، وكانت قد حصلت على الطلاق من فاروق ، واجتاز ابنها أحمد فؤاد مرحلة ولي العهد على لا شيء بعد أن أعلنت الجمهورية رمزاً لكرامة مصر إلى الأبد .. لم يعد ثمة ما يحول بينها وبين المضي في الحياة على طرق جديدة ...

وتطلع فريد إلى نفسه يناقشها على ضوء ما يرى في داخلها ومكنونها ! وسأل نفسه :
_ هل أطرح كل فلسفتي عن الزواج وأتزوج ؟
فأجابته نفسه والنفس أمارة بالخير كثيراً :
_ بل ينبغي أن تتزوج .. لقد جربت المرض في فترات متفاوتة فلم تجد من تضع أناملها على جبينك لتمسح الحمى عنك . وأسمهان قد مضت إلى القبر وليس من يحنو بعدها حنوها ، وأمك قد اختارت العزلة بعد أن اطمأنت إلى أن القافلة الصغيرة قد بلغت سن الرشد والثراء .. الوحدة قاتلة .. لياليها باردة .. وأيامها تزخر بالفراغ ، والفراغ جواز مرور إلى سباق الخيل والمائدة الخضراء ، الزواج استقرار ، واستقامة ، ولك في الفنانين الذين تزوجوا ولم ينقطع لهم إنتاج أسوة حسنة وقدوة ماثلة .
وعاد إلى نفسه يسألها :
_ فماذا ترين في ناريمان ؟
فقالت نفسه ، وضميره يطل عليها ويحبذ منطقها :
_ ناريمان ملكة سابقة من أسرة كريمة وأنت فنان مرموق من أسرة لا تقل كرماً ولا كرامة ، صعد بك فنك إلى مستوى القصور والفضل لها .. ولكن لماذا لا يكون الفضل لفنك ؟ .. وأنت _ من باب المباهاة والتيه _ أمير بحكم فرمان سلطاني منح كل أسرة الأطرش لقب الإمارة ، فرمان آخر هو الذي أعطى أسرة محمد علي ألقاب الخديويين والملوك .. والكفاءة قائمة والتساوي ظاهر ..
_ فماذا لو قالت ناريمان أنها لن تخرج من قصر ملك لتدخل بيت فنان ؟
_ ستقول لها أنك تكسب من عرق الجبين ثلاثين ألف جنيه في العام من ألحانك ، ومن أفلامك ، من ممتلكاتك، ستقول لها أن الملك كان يكسب من عرق جبين شعب مظلوم ،والله يبارك في قرشك وعرقك ولا يبارك له في ملايينه وظلمه .. لا لن تقول هذا حتى لا تخدشها ، هي لبيبة تفهم كل شيء ، ولا شك أنها قرأت عن بذخ حياتك وكيف أنك لا تقيم للمال وزناً !
_ وأهلها ؟
_ أهلها طيبون .. بالإجماع الرائع يحبونك ، الأم والجدة والخال وابن الخال .. ودعواتهم إليك وسؤالهم عنك وترحيبهم بك شواهد على أن الاحترام في نفوسهم قائم ولا شك أنهم يحرصون في إجماع رائع أيضاً على أن تتزوج ناريمان بسرعة خارقة حتى تخرج من حالتها النفسية التي تثير إشفاقهم وحزنهم .
_ وهي ؟
فقال لنفسه وهو يتمثل صورتها في كل مكان صافحت عيناه وجهها :
_ الذي يبدو منها يقطع بالميل أكثر مما يقطع بالحياد ، في لمسات يديها أحياناً ناقوس يدق بالحب ، ثم يخفت فجأة ، وفي نظرات عينيها أحيناً نداء بهذا الحب ولكنه يتلاشى في ثوان .. أكثر الظن أنها في صراع ، ليس الصراع بكثير على من في مثل حالتها .. ملكة تنـزل من على عرش لتخطو بين الناس ! لا بد لها من أشهر تقضيها وهي تخطر على سحب الأحلام القديمة .. وفي عقلها ذكريات تحتاج لزمن حتى يتراكم فوقها التراب وتنساها !
_ فهل أطرق بابهم على الفور ؟
فقالت له نفسه :
_ انتظر .. وإنما لا تقطع مروءتك ، ولا تكف سؤالك عنهم !
***
داوم فريد على زيارة أسرة ناريمان ، أسرة في محنة ولن يتخلى عنها مهما كانت الظروف ، وزادت معزته عند الأم التي رأت كل سامر العز ينفض من حولها ، ولم يبق إلا فريد الأطرش ، وأحس فريد أنه أصبح واحداً من العائلة .. شعور أضفى على حياته السعادة لأنه تمهيد طبيعي للدور القادم في حياته ..
وكانت معاملة ناريمان تزداد رقة يوماً بعد يوم له ، وكان اهتمامه بها يتصاعد إلى مستوى الحب ، فلا تنكر عليه اهتمامه . . بل يحدث إذا أحست فتوراً منه أن تعاتبه برقتها ، فيحمر وجهه خجلاً .. كالعذارى !
ولكنه فتح عينيه ذات صباح على شيء لم يضعه في الحسبان ! فقد كانت الصحف بدأت تنشر أخباراً كثيرة عن زيارات فريد لناريمان .. فذهب أحد الصحفيين يستطلع السيدة أصيلة بحديث ناري أحرقت به قلب فريد .. وقالت أنه غير كفء لها لأنه فنان وهي ملكة سابقة ، وعرجت بالتجريح على فهمه للصداقة وبالعتب لنفسها لأنها فتحت له باب بيتها ، أشبعته هجوماً ، وأنهت حديثها بالتكذيب الصارخ لهذا الافتراء على الأعتاب العالية !
ومادت الأرض بفريد ! كان حقاً يريد ناريمان وها هي بضعة سطور تقضي على هذا الأمل الدافق في قرار نفسه وتصنع سياجاً من فولاذ بينها وبينه ، وفكر وهو يقرأ السطور من جديد _ هل لناريمان يد في هذا الحديث .. هل أخذت الأم رأيها ؟ مستحيل أن تقول ناريمان حرفاً مما كتب .. مستحيل ! .. وقال لنفسه أياً كان الأمر فأنا أحببت ناريمان كواحدة في أسرة ، ووددت أن أتزوجها لأنني رأيت في حياة تلك الأسرة سعادة على عهد الثراء ، ونضوجاً عاقلاً على عهد محنتها ، وفي الحالين أحببت حياة الأسرة على هذا الأنموذج ، سأكره حياة الأسرة بعد أن وجدت من هذا الأنموذج جزاء سنمار ، وقفت بجانبهم رغم نصائح كل أصدقائي فأنكروني وطعنوني ..
وقام من فراشه ولكنه أحس دواراً .. فعاد إليه وهو يحس في قلبه سكيناً ، وتجمعت الدموع في عينيه فابتلعها وهو يسمع رنين جرس التليفون ووضع السماعة على أذنه وقال بصعوبة :
_ آلو ...
والمتحدث كان أحد الصحفيين ، وسأل فريداً رأيه في الحديث الذي أدلت به أصيلة هانم ، فرتب فريد الكلمات بعناء على لسانه وقال :
_ كان يسعدني ويشرفني أن أصاهر هذه الأسرة الكريمة .. ولكن الواقع أنني لم أطلب يد ناريمان !
تغلبت عراقة أصله على غضبه ، وقمع أدبه ثورته ، ووجد نفسه يعلق هذا التعليق المهذب الكريم !
ودقت عشرات التليفونات بعد ذلك ، الناس يطيبون خاطره ويقولون له ألم نقل ألا تذهب إليهم ، فيشكر لهم مواساتهم ، ويدافع والحزن يغور في نفسه .. والوجوم يطبق عليه بزحف ثقيل بعد أن حال بينه وبين التليفون والزائرين .. هذه محنته وحده ولن يجعل كل الأنوف تندس فيها .. ليجتر أحزانه مع نفسه، وليضمد جراح كبرائه بيده..وحاول أن ينام فاستعصى عليه النوم ، وعاش مع الأرق وصور ناريمان والدموع..
ونهض من فراشه مرة أخرى فوقع على الأرض ! وبعد دقائق كان الأطباء من حوله ... همسوا أن الحالة ذبحة صدرية وكان مغمض العينين لا يستطيع أن يواجه النور ، ولكن أذنه تفتحت لتلتقط كلمات متناثرة تأتي وكأنها من واد سحيق .. لا يتحرك .. وشقيقه فؤاد يتلقى التعليمات .. لا يغضب .. لا يسهر .. وقال فريد لنفسه :
_ هي النهاية !
وراح في غيبوبة وراء غيبوبة ! وحين شدته العقاقير إلى رشده عرف أن الأطباء قد أصدروا عليه حكماً بالسجن في تلك الغرفة .. بل أن حدود السجن تضيق حتى لا تخرج عن أطراف الفراش . وليس له حرية الحركة في هذا المستطيل إلا بمقدار وعلى حذر ... وبعد أيام !
وسهر فؤاد الأطرش مع زوجته إيمان إلى جانب فراش فريد ينفذ تعليمات الأطباء ! وأحس فريد أن يضني معه الشقيق وزوجته ، فلماذا لا تكون له زوجة تعتني به دون فضل ، وتغدق عليه الحنان كواجب تؤديه وحق يتلقاه ! وجاءته إيمان بالصحف فقلب مجلة منها وتوقف عند صفحتين فيهما تحقيق صحفي عن فتاة مصرية من عائلة مرموقة في الاسكندرية ! والفتاة جميلة .. وفتش فريد في تلافيف رأسه فأطلت صورتها من حلبة السباق ، وهناك رآها مع صويحباتها ، لكن نظرت إليه كمعجبة فتغافل عن نظراتها كما يقتضي الحياء . وصاح فريد في إيمان وفؤاد :
_ اذهب إلى أسرة هذه الفتاة .. اخطباها لي . أريد أن أتزوجها على الفور . بثوب البيت آخذها .. ليس لي مطالب ولها أن تحدد المهر كما تشاء .. هيا فؤاد ! خذ إيمان وطيرا إلى الاسكندرية ..
فقلب فؤاد نظره في الصور ومصمص شفتيه وقال :
_ تخاريف لمرض . فريد الأطرش الذي تتمناه مائة واحدة يراها يتزوج واحدة لا يعرفها ، يضع أصبعه على صورة ويقول أتزوج هذه ..
فقال فريد يعناد :
_ يا فؤاد أنتم تريدون مني أن أتزوج .. هذه هي فرصتي للزواج إنني أحس الوحدة وأنا على فراش المرض ، وأحس حاجتي إلى الزوجة الآن أكثر من أي وقت مضى .. ستندمون إذا لم تنتهزوا فرصة حماستي !
وقالت إيمان بصراحة :
_ فؤاد هيا نسافر إلى الاسكندرية !
وطرق الخاطب والخاطبة باب الأسرة الكريمة في الاسكندرية ووقعت الأسرة في حيرة ، وقال كبير الأسرة لفؤاد :
_ الواقع أن سر حيرتنا أن ابنتنا مخطوبة ، وفرحها بعد أسبوع واحدة ، وقد كنا نفكر في أن يحيي فريد حفلة الزفاف لولا مرضه ! ثم همس الرجل في أذن فؤاد :
_ فإذا جاءت العروس وسألتكما لماذا جئتما فقولا ((جئنا نعتذر لأن فريد مريض لا يستطيع الغناء ! )).
وحمل فؤاد وإيمان النبأ إلى فريد ، فلم يبد عليه أنه تأثر لفشل المشروع ، فقال فؤاد لإيمان :
_ الحمد لله لأنها مخطوبة إذ ماذا كان يكون موقفنا لو لم تكن مخطوبة ووافقت وعدنا إلى فريد فرفض !
يبدو أن خواطر كثيرة دقت رأس فريد عن ناريمان !
بالضحك والمزاح والسياحة والسهر حاول فريد الأطرش أن يجلي قصة ناريمان عن حياته .. فلما فشلت هذه كلها عمد إلى كبريائه وتذرع بها وسيلة للنسيان لأنه قد يفرط في كل ما يملك من أجل الحب إلا الكبرياء ولكن قصة ناريمان تركت في قاع نفسه طبقة من الحزن تصعد بصماتها على صوته إن غنى ، وتخرج أنيناً مؤثراً إن جرت أصابعه على العود ! صار للحزن في صدره عدة ينابيع في قرار قلبه .. بعضها نأى في البعد ولكنه لا يزال ينضح بالألم ، وبعضها قريب وأنينه عال يختلط بدقات القلب الجريح .. فمن حبيبة عمره إلى سامية جمال إلى ناريمان .. أحزان تتصل وتتشابك وقد تجبره جبراً على البكاء إن غنى عن الفراق والحرمان والغدر ، يبكي على حاله لا على سطور كتبها مؤلف خالي البال ، و يبلل بدموعه ذكرياته ليس من أجل قصة على شاشة مفتعلة إنما من أجل بخته في الحب وحظه فيمن يحب !
ولكن هذا كله لم يضع في نفسه عقدة الضجر بالناس ، أو النفور منهم .. إنما ارتد إلى جمهوره وكأنه يحس أن كل قصة حب تباعد بينه وبين هذا الجمهور ، وهو رأى الجمهور _ الذي طالما أغدق عليه حبه لغير غاية إلا التقدير والإعجاب ! بدأ فريد يعمل في سلسلة من الأفلام لا تنقطع ، كان يريد أن ينسى فلينسى في العمل ، ولينس وهو يعطي للجمهور حقه من فنه ، ولم يكن قلبه يحتمل هذا القدر من الإرهاق ! كان جبينه يتفصد عرقاً حتى وإن عمل في عز الشتاء ، وكان يحس بوادر الإغماء وهو تحت الأضواء القوية فلا يبالي ، ويقطع نصف يوم في غرفة المونتاج ليعد أغنية للإذاعة ، ويسهر الليل لأن النوم لا يلين له قبل الفجر ...
وفجأة سقط ثانية .. بذبحة صدرية ثانية !
كان الوقت ظهراً وقد اجتمع حول فراشه ثلاثة من أساطين طب القلب وهم الأطباء : محمد ابراهيم، وعمر شوقي ، ورضوان قناي . وقالوا لفؤاد الذي يحمل كل الهموم أن على فريد أن يلتزم الطاعة ويلزم الفراش وأن قلبه مضنى بالهموم والعمل ، وعليه أن ينقي دمه من هذا كله فيخف العبء على الشرايين ، وألزم ما يلزم له ألا يتحرك .. لأن قلبه يتربص به وقد لا قدر الله ينطفئ سراج حياته إن هو عاند وتحرك !
وخرجوا وعلى وجوههم الوجوم ! وفتح فريد عينيه فأطل في محتويات حجرته وعلقت عيناه بكلمة (( الله )) مكتوبة بخط جميل وهي تتوسط إطاراً أنيقاً على الحائط أمامه ، وأحس أن طاقة من السماء تنفرج أمام عينيه بحجم الإطار ، فظلت عيناه على الكلمة الجليلة دون حراك ! وحين أحس أن سكينة عارمة غمرت قلبه تطلع إلى وجوه من حوله ، فارتد الريق إلى حلوقهم التي جفت وهم ينظرون إلى وجهه المذهول بكلمة الله طيلة ساعتين .. وكلهم يعرف شفافيته وطيبة قلبه ، وكلهم يعرف أن أحلامه في منامه لا تخيب ، وأن توقعه للخير يصدق ، وانتظاره للشر بالرهان .. وكلهم يعرف أنه يجتاز كل المحن وهو يردد كلمة الله !
وزحف الأصيل ، وركض الليل في حجرته فرأوا أهدابه تختلج ثم تنسدل على عينيه ، وأطلت قطرات الدموع من بين الأهداب وهو لا يتكلم ، حتى الأنة الواهنة ضاعت ، فأدركهم عليه الخوف وجرى فؤاد إلى الأطباء يستدعي طبيباً ... ووجد كل الأطباء خرجوا من بيوتهم ، أطباءه الخصوصيون أشاروا عليه بما ينبغي وانصرفوا دون تحديد موعد للعودة ، والدكتور محمد ابراهيم نصح فؤاد بنقل الدم إلى فريد إن هو انتقل من سيء إلى أسوأ ، وقد قرر فؤاد أن ينفذ تعليمات الدكتور محمد ابراهيم فمن أين له بالطبيب ! كانت الليلة ليلة رأس السنة ، ومن حق كل الناس أن يسهروا ويمرحوا وأن يستقبلوا العام الجديد وهم في نشوة الخمر وأحضان الحب ، لم يخطر ببال هؤلاء السعداء أن رجلاً يحتضر ! وبكى فؤاد وهو يدير قرص التليفون مائة مرة ، وخلال هذا يقوم إلى حجرة فريد فيلقي عليه نظرة ويجري إلى التليفون ليطلب المزيد من الأطباء .
وعثر على طبيب تأخر في الخروج إلى السهرة مع أسرته ، فلما سمع الدكتور اسم فريد قال أنه سيلغي سهرته ، وبعد دقائق كان في حجرة فريد ومعه قنينة الدم ! وثبتها إلى أعلى ووصلها من أسفل بخرطوم في نهايته أبرة ونهاية الإبرة في عرق من يد فريد ! وجلس وترك الدم يتسلل إلى شرايين فريد قطرة قطرة ، وفريد في الغيبوبة ، وفؤاد فيما هو أقسى لأنه يتألم وهو مفتوح العينين ! فلما اطمأن إلى أن قطرات الدم ترد إلى فريد الحياة مع الثواني انصرف إلى حجرة أخرى لأنه أحس قلبه ينفطر على شقيقه الساجي على فراش الغيبوبة ! وبعد منتصف الليل دق الباب ... فقام فؤاد ليجد الدكتور محمد ابراهيم ، كان قد عاد إلى البيت فأنبأوه بأن بيت الأطرش طلبه فذهب على الفور إلى فريد لأنه يعرف أن الحالة خطيرة .. وتركه فؤاد يدخل وحده فما عاد يحتمل المزيد من عذاب شقيقه ، وتسمع الدكتور محمد ابراهيم قلب فريد فوجد النبض ضائعاً .. وجد الستارة تؤذن بالنهاية ، ورغم ارتياعه قال للطبيب الكريم الساهم إلى جانب فراش فريد :
_ لا تتركه أبداً !
وانصرف على وجهه قلق لم يستطع إخفاءه ، وحاول أن يبتسم في وجه فؤاد لكي يطمنه ولكن الابتسامة خذلته ، فقال لفؤاد في صراحة :
_ ادخل إلى شقيقك .. حدثه .. استمع إلى أي شيء يمكن أن يقوله !
وأحس فؤاد دواراً ، وقال لنفسه لا ينبغي أن تنهار فتشغل الطبيب الثاني بك وفريد أولى بكل دقيقة من وقته ، ولم تطاوعه نفسه ليدخل حجرة فريد وفكر في عبارة الدكتور محمد ابراهيم ووجد دموعه تنهمر من عينيه .. وانحسر الظلام أمام نور الفجر فغادر مقعده وتسلل ليرى غرفة فريد .. ووجد القنينة تدفع دمها إلى شرايين فريد في صمت . ووجد الطبيب بملابس السهرة وقد أغفى على مقعده ، فلم يشأ أن يزعج الغافي ، ولا أراد أن يفجع نفسه بأي حقيقة عن الساجي .. خرج إلى سيارته واخترق شوارع القاهرة بعصبية ظاهرة ثم توقف أمام كنيسة مار جرجس في مصر القديمة ، فإلى تلك الكنيسة كانت أسمهان تذهب في كل كرب فيجلو الكرب ويتبدد ، وإلى قبور الراحلين بجانبها كانت تختلف وهي تحمل باقات الزهور وفاء للموت حتى ولو لم تعرف من الهاجع تحت الصلبان المشرعة .. وكان فؤاد يذهب معها فاعتاد السكينة من الكنيسة وكان خادمها يكنسها فشق لنفسه طريقاً بين الغبار ومضى إلى الهيكل ، وركع وأجال عينيه في فضاء الكنيسة ، وتنقلت عيناه بين صور القديسين ، ثم تمثل أسمهان بجانبه .. يا رب لقد أخذت أسمهان إلى جوارك فاترك لي فريدا .. يا رب أنه طيب وصانع خير .. يا رب إنه كريم ونقي القلب .. يا رب إن زكاته تسبق نزواته ، وحسناته تجب سيئاته .. يا رب أمه تقتل لو حدث له مكروه .. أولى بي أن أذهب إلى القبر معه إن كانت مشيئتك أن تواريه القبر .. يا رب .. يا رب .. يا رب نج فريد ! أخرجه من محنته إلى شاطئ السلامة !
وانخرط فؤاد في بكاء هستيري ، وأقبل عليه خادم الكنيسة بشمعة ... ووقف فؤاد يشعلها وهو لا يراها من فيض دموعه ، وثبتها أمام صورة مار جرجس بأنامل ترتعش .. ثم فجأة أحس السكينة تهبط على نفسه الملتاعة ، وجفف دموعه .. وعاد إلى سيارته لييمم شطر البيت !
وحين فتح عم عبده الباب لفؤاد وجد فؤاد الطبيب من خلفه ، وقال له بصوت فيه فرحة :
_ عاد النبض .. قلبه يدق !
وتنفس فؤاد السعداء ، وجرى إلى فراش فريد فوجد الذبول قد زايل وجهه ، وجلت صفرة الموت عن الجبين الوديع ، وسمع فؤاد أنة فريد الخافتة .. وسعد بها لأنها وكيل الحياة وبرهانها !
وفي السابعة صباحاً دق الباب وكان الطارق الدكتور محمد ابراهيم وكان على وجهه حزن شديد وهلع ظاهر، وسأل فؤاد على الفور :
_ كيف حال فريد ؟
فقال فؤاد باطمئنان :
_ بخير ... فقد بدأ قلبه يعمل ..
وبدأ فريد يسترد علاقته بالحياة مع كل نبضة جديدة ، ولكن الحياة لم تكن عملية مضمونة لمن يجتاز برزخ الموت إلى حافة الحياة ! بقي عليه لكي يندمج في الحياة أن يطيع أوامر الأطباء ولا يتحرك .. وجاء له الأطباء بثلاث ممرضات ينفذن عليه تعاليمهن قسراً ودون خيار .. أرمنية فولاذية العضلات ، وإيطالية مليحة الوجه تقنعه بالدواء بنظرة ، وانجليزية مضبوطة كالساعة تنفذ كل أمر في حينه بالدقيقة والثانية . فإذا أراد أن يشرب الماء فله من الماء قطرات ، وإذا أمعن في المطالب بإشارات اليد رفضنها جملة وأمرنه بالسكوت .. وهو مفتوح العينين ، ولكنه لا يحس خطر الموت ، وأراد أن يتبول فجئنه بالوعاء ، وأشار عليهن بالخروج بصوت متقطع فرفضن ، وهو حيي أقسم لهن أنه لن يتبول أمام مخلوق مهما كان مريضاً .. ووعدهن بأنه لن يتحرك ، والأرمنية طيبة القلب صدقت ، والإيطالية قلدتها في التصديق ، أما الانجليزية فرفضت الجلاء ، قالت له (( أنا لا أثق بك )) ، ووقفت أمامه لدقائق وهو لا ينفذ ما يريد ، وهي لا تنفذ ما يريد .. وأخيراً تدخلت الأرمنية والإيطالية للوساطة فغادرت الانجليزية الحجرة وهي تتوقع شراً .. وأغلق ثلاثتهن الباب ووقفن خلفه ! وبعد دقيقة واحدة سمعن جسماً ثقيلاً يرتطم بالأرض !
فتحت الممرضات باب الحجرة فوجدن فريداً على الأرض ، وتبادلن نظرات الفزع بينما دفنت الإنجليزية أذنها على صدره لتستمع نبضه ، وعادت إلى زميلتها بعينين حائرتين وهي تقول :
_ عجباً .. قلبه ينبض أكثر من ذي قبل ‍
وحملنه على الفراش ففتح عينيه ثم ابتسم ابتسامة صفراء ، وأنّ أنّة طويلة من أثر السقطة وتذكر ما حدث من دقائق ، فقد أخلف وعده للممرضات بأنه لن يغادر الفراش ليقضي حاجته، وما كاد يقف حتى ترنح كالمخمور ثم سقط كالحجر دون أن يحس ..
وجاء الأطباء على عجل ..
قال الدكتور عمر شوقي :
_ أنا لا أوافق منذ البداية على نقل الدم الذي حدث ..
وبعد ساعة واحدة قال الدكتور محمد ابراهيم :
_ كان لا بد أن يموت من أثر السقطة .. ولكنه عاش ليؤكد أن إرادة الله فوق كل شيء ..
وجاء الدكتور قناوي فقال :
_ هو في حساب الطب ميت يرحمه الله ‍
ثم أجمع الثلاثة على تفسير واحد لما حدث ‍‍! هل تتصور لمبة كهرباء تباعدت منها أسلاكها .. فانطفأت وخمد نورها إلى الأبد ! هل تتصور أن هذه اللمبة تسقط فلا تنكسر وإنما تمتد أسلاكها بفعل القدر فتتلامس وتلتحم وتضيء من جديد !
هذا هو عين ما حدث لفريد ...
سقطة صدمت قلبه ، حركته بعنف ، دفعت البقاليل للشريان فانتشى القلب واسترد الحياة بمعجزة !



امير القلوب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس

إضافة رد

مواقع النشر




ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى الردود آخر مشاركة
الدرس الثامن الحمدان المنتدى العام 4 11-08-2019 04:46 AM
اكتشاف فريد من نوعه.. رأس ذئب عمره 40 ألف عام ريهام خالد الصور والمناظر الطبيعية ومقاطع الفيديو 3 06-13-2019 01:21 PM
99 فائدة نفيسة من 55 كتاب فريد ابو العرجا المنتدى العام 5 12-05-2011 10:47 PM
الحكمة من تناول التمر بعدد فردي أ/الشمــراني الطب والحياة 8 03-31-2010 01:08 PM
صور قديمه ونادره للسعوديه في القرن التامن عشر memo الصور والمناظر الطبيعية ومقاطع الفيديو 7 01-10-2009 08:13 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc. Trans by
جميع الحقوق محفوظة لـ منتديات شمران الرسمية