( واللي مثيلي يرفع الصوت في سبتان )

في أحد أيام الربيع التهامية كان سبت شمران على موعد مع الشهامة والكرم والنخوة والشجاعة وصهيل الأبطال ، كان يوماً يفوح بالشعر وينضح بالشجاعة ويضوع مسكاً من شذى رياحين سبتان ، وستظل ذاكرة الأجيال تستلهمه بكل فخر كلما تقادم بها الزمان .
في ذلك اليوم استقبل رجال شمران تهامة على ثرى سبتان جيرانهم وشراكينهم من قبيلة بالقرن وقد كانوا في طريقهم إلى بلاد بني المنتشر لتأدية واجب ( السماوه ) ، وقد أبى رجال سبتان ومطاليق شمران إلا يقدموا لشراكينهم واجب الضيافة فكان احتفالاً فاق الوصف وأذهل الواصفين .
كان الشاعر / محمد بن ظافر الشمراني في ذلك الوقت شاب في ريعان الشباب يتدفق حيوية وشعرا ، ويتفجر إبداعاً وفخرا ، وذلك عندما قَدِم إلى سبت شمران مدعواً ليكون شاعر شمران في ذلك المحفل المهيب وكان إلى جواره الشاعر الصمصام والسيف البتار الشاعر الكبير / عبدالله بن بركي الشمراني .
دخل شاعرنا الشاب إلى ميدان الحفل والعيون ترقبه وخاصة عيون كبار السن والذين كانوا يتهامسون فيما بينهم ماعساه أن يقول هذا الشاعر الشاب في حضرة شعّار بالقرن ، لقد كان يخالجهم توجس دفين نظراً لحساسية الموقف وخوفاً من انفلات الكلمات وعدم ضبط المفردات وخاصة أننا أمام جيران وشراكين وكل كلمة ستقال في هذا الحفل لابد وأن تكون كلمة محسوبة ومقننة بما يتناسب وأهمية الموقف .
لم يتلاش هذا التوجس من قلوب كبار السن إلا عندما صدح ابن ظافر بقصيدته الأولى والتي كانت كالغيث العميم في جزالة معانيها وكالصواعق المحرقة في براعة مفرداتها حيث قال :

طلبة الله في المصدار والمبدا
ثم أصلي على خاتم رواسيله
والتساليم بالأول وبالتالي
يابني عمنا كسابة القاله
كل مالوّع النيشان باروده .

عند ذلك تفجرت همم الرجال وازداد الحماس في ميدان سبتان واشرأبت الأعناق اعتزازاً وفخرا ، وارتفع صوت الرجال عالياً يردد ( كل مالوّع النيشان باروده ) لتجاوبه جبال سبتان ووديان شمران وقرى شمران .
ولكن ابداع شاعرنا بن ظافر لم يتوقف عند هذه القصيدة وكيف له أن يتوقف وهذا اليوم هو يوم شمران وهذا المقام هو مقام شمران فأقبلت قصائده تترى وأبياته تتوالى يزاحم بعضها بعضا فكانت قصيدته الثانية والتي حمّلها من الرمزية مايذهل السامعين ومن يعرف شعر بن ظافر سيعرف أن بن ظافر هو أبو الرمزية في شعر العرضة الجنوبية .
حيث قال في هذه القصيدة ...

حيّ من ساعة الفتنة مايتردّى
والمخالف إذا خالف لقى ويله
وابنِ آدم يذوق المر والحالي
والجبل ماحدن شلّه ولا حاله .

أما عندما أقبلت الجموع من كل القبائل يتقدمهم المشايخ وأعيان القبائل وتوافدت جحافل الماشين والمسمين إلى ساحات سبتان فقد قفز شاعرنا الشاب كالليث الهصور وأمسك بالميكرون ليشنّف الآذان بقصيدة حماسية مذهلة غزيرة المعاني ، فريدة الكلمات ، تتابع فيها المفردات وكأنها طلقات الرصاص ، وتدوّي بها العبارات كدويّ القنابل ، ولك أن تتخيل صوت بن ظافر العذب وهو يصهل بهذه القصيدة عالياً بين الجموع ثم يتسامى ويتسامى حتى يعانق الجبال والسحاب .
حيث قال في قصيدته هذه ...

القلب ماجا فيه ضيقه وشي غبون
واللي مثيلي يرفع الصوت في سبتان
ويذكّر الأبطال ماضي عصورها
لو كان قالوا راح وقت(ن) وراح أزمان
الناوي أتنظر مجاله وداير سيله
ذا سالت الوديان وأدار سيلها

انقضى ذلك اليوم كأسرع مايكون وانفضّت الجموع ولكن صدى صوت بن ظافر وصدى قصائده لاتزال تحلق في أجواء سبتان وكلما صافحت ذلك المكان سمعت بن ظافر وهو يردد بصوته الشجي ( واللي مثيلي يرفع الصوت في سبتان .. ويذكر الأبطال ماضي عصورها )
فلله درك من شاعر نقشت اسمك في ذاكرة محبيك ودونته في سجلات قبيلتك بمداد من ذهب ونسجته بأنسجة من عشق ممدود وحب مكنون .
بقلم / حسن الشمراني