منتديات قبائل شمران الرسمية


منتدى نصره الرسول (صلى الله عليه وسلم ) نسأل الله أن يحشرنا في زمرة الأنبياء والعلماء والصالحين

إضافة رد

 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع

قديم 09-28-2023, 08:43 PM   #1
 
الصورة الرمزية زهرة اللوتس.
 

زهرة اللوتس. is on a distinguished road
Post إمام الصابرين 🌾




إمام الصابرين

د. حسن علي حسن

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

إمام الصابرين

في ذِكرى مولده - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَجْدر بنا أن نستعرض بعضَ صُوَرٍ من جهاده في نَشْر الإسلام بِمَكَّة؛ مَعقل الشِّرك والكفر، وصَبْره على كلِّ ألوان التعذيب والإيذاء من كُفَّار قريش، هؤلاء الذين اتَّخَذوا كلَّ وسيلةٍ للقضاء على الإسلام ونبِيِّ الإسلام طوال عشر سنواتٍ منذ إعلان دعوته في جنبات مكَّة حتى هجرتِه الشريفة إلى "يثرب".

لقد تعدَّدت صورُ الحرب التي أعلنَتْها قريش في مكَّة على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتارةً يتَّهِمونه بالجنون والسِّحر، وتارة يستهزئون به ويَسْخرون منه، وتارة يشكِّكون في القرآن وإثارة الشُّبهات حوله، ومرَّة أخرى يَجْنحون إلى المُساومة؛ وذلك بالتَّرغيب بالمال والمنصب؛ لعلَّ الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - يترك دعوته، وأخيرًا الإيذاء البدني، ثم محاولة اغتياله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ولا يتَّسِع المَجال لتناوُل كلِّ هذه الصُّور، وإنَّما نكتفي بِعَرض بعض صُوَر الاستهزاء به والسُّخرية منه، ثُمَّ الإيذاء البدَنِي الذي تَحمَّله الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بنفسٍ راضية واثقةٍ بنصر الله.

استخدمَتْ قريش في مكَّة سلاحَ الاستهزاء والغمز واللَّمز؛ في مُحاولةٍ منها للحطِّ مِن شأن صاحب الدَّعوة، والتقليل من مكانته؛ حتَّى ينصرف الناسُ عنه، يقول البخاريُّ: إنَّ امرأةً قالت للرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ساخرةً مستهزئة: إنِّي لأرجو أن يكون شيطانُك قد تركك، لَم أرَهُ قربك منذ ليلتين أو ثلاثًا، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 1 - 3].

وقد بلغ من استهزائهم وكراهيتهم للرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّهم لَم يَستخدموا اسْمَه وهو محمَّد، وإنَّما أطلقوا عليه اسمَ: (مذمَّم)، وإذا ذكروه بسوءٍ، قالوا: فعل الله بِمُذمَّم، وليس هو اسمه، ولا يُعرَف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره! فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا تَعجبون كيف يَصْرِف الله عنِّي شَتْمَ قريش ولعْنَهم؟ يشتمون مذمَّمًا، وأنا محمَّد)).

وكان أبو جهل الفاسق - وهو زعيم المستهزئين - يقول مستهزِئًا: اللَّهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطِر علينا حجارةً من السماء، أو ائتِنا بعذابٍ أليم، وفيه نزلت الآيات: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 32 - 34].

وفي معرض الاستهزاء بالنبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبما نزل عليه من القرآن، وقَف أحد المشركين يَسْخر من القرآن والملائكةِ، يقول ابن إسحاق: فقال أبو جهل يومًا وهو يهزأ برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما جاء به من الحقِّ: يا معشر قريش، يزعم محمَّدٌ أنَّ جنود الله الذين يعذِّبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعةَ عشر، وأنتم أكثر النَّاس، عددًا وكثرة، أفيَعجز كلُّ مائة رجلٍ منكم عن رجل منهم؟ فأنزل الله في ذلك: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ﴾ [المدثر: 31].

إثارة الشبهات حول القرآن بدأتْ في مكة منذ بدأ نزول الوحي على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
بل وتَمادتْ قريشٌ في استهزائها، وذلك ما أشار إليه ابن إسحاق في حديث الأراشي الذي ابتاع عنه أبو جهلٍ الإبل، ومَطلِه بأثْمانِها، ودلالة قريشٍ إيَّاه على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِيُنصِفَه من أبي جهلٍ؛ استهزاء وسخرية بالرَّسول؛ لِما يَعلمون من العداوة بينهما.

وعندما جاء الأراشيُّ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شاكيًا، مشى معه إلى أبي جهل؛ في مُحاولة من النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لردّ حقِّ الأراشي إليه، وقريشٌ ترقب الموقفَ؛ طمعًا في موقف ساخر ومستهزِئٍ برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا استردَّ الأراشيُّ حقَّه عجبَتْ قريش من ذلك، وسألت أبا جهل في ذلك، فقال: وَيْحكم! والله ما هو إلاَّ أن ضرب على بابي، وسمعت صوتَه، حتَّى مُلِئت رعبًا، ثم خرجتُ إليه وإنَّ فوق رأسه فحلاً من الإبل، ما رأيتُ مثل هامته ولا أنيابِه لفحلٍ قطُّ، والله ولو أبيتُ لأكَلني!

وهكذا ردَّ الله على قريشٍ مكيدتَها وسخريتها، واستخلص الرَّجلُ من أبي جهل حقَّه.

ومرَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا بِجماعةٍ من زُعَماء قريش، فهمزوه واستهزؤوا به، فغاظه ذلك، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأنبياء: 41].

والمُشركون في أنديتهم ومَجالسهم لا يتركون فرصة إلاَّ واستهزؤوا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول ابن إسحاق عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: حضرتُهم وقد اجتمع أشرافُهم في الحِجْر، فذَكروا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالوا: ما رأينا مثل ما صبَرْنا عليه من أمرِ هذا الرجل قطُّ؛ سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعتنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمرٍ عظيم، أو كما قالوا.

فبينا هُم في ذلك طلع رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأقبل يَمشي حتَّى استلم الرُّكن، ثُمَّ مرَّ بِهم طائِفًا بالبيت، فلمَّا مرَّ بهم غمزوه ببعض القول، قال: فعرفتُ ذلك في وجهِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم مضى، فلما مرَّ بِهم الثانية غمزوه بِمِثلها، فعرفتُ ذلك في وجه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم مرَّ بهم الثالثةَ، فغمزوه بمثلها، فوقف، ثم قال: ((أتسمعون يا معشر قريش؟! والذي نفسي بيده، لقد جئتُكم بالذَّبح - أيِ: الهلاك والقتل إن عصيتُم وكذَّبتم - قال: فأخذَتِ القومَ كلمتُه حتَّى ما منهم رجل إلاَّ كأنَّما على رأسه طائر واقع، حتَّى إن أشدَّهم قبل ذلك ليَرفَؤُه - يُسكنه - بأحسَنِ ما يجد من القول، حتَّى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنتَ جهولاً.

ومن كبار المستهزئين السَّاخرين:
الأسود بن عبدالمطلب بن أسد، والأسود بن عبديغوث بن وهبٍ الزُّهري، والوليد بن المغيرة المخزوميُّ، والعاص بنُ وائلٍ السَّهمي، والحارث بن الطلاطلة الخزاعيُّ، وقد روى أبو نعيمٍ أنَّ الله تعالى أنزل فيهم: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95]، فقد روي أنَّ جبريل - عليه السلام - رمى في وجه الأسود بن عبدالمطلب ورقةً خضراء فعمي، ومرَّ به الأسودُ بن عبديغوث، فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه، فمات من ذلك؛ ومرَّ به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى جرح بأسفلِ كعب رِجْلِه، وكان أصابه قبل ذلك بسنين، فانتقض به فقتله، ومرَّ به العاص بن وائلٍ، فأشار إلى أخمص رجله، فخرج على حمارٍ له يريد الطائف، فجرى به حمارُه على نبات خفيف، فدخلت في أخمص رجله منها شوكةٌ فقتلَتْه، ومرَّ به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه، فتحرك القيحُ فيه، فقتَله.

كذلك كان أبو جهلٍ الفاسق من أكبر المستهزئين برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبالمسلمين، وقد قُتِل شرَّ قِتلة في غزوة بدرٍ، وشاركه في نفس المصير أميَّة بن خلَف، والنَّضر بن الحارث، والأخنس بن شريق، وأُبَيُّ بن خلف.

ولَم يكن أهلُ مكَّة وحْدَهم هم الذين حملوا لواء الاستهزاء والسُّخرية برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنما امتدَّ هذا الشرُّ إلى زعماء أهل الطائف حين توجَّه إليهم الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعوهم إلى التوحيد وعبادةِ الله وحْدَه، وتَرْكِ عبادة الأصنام والأوثان، فما كان جوابُهم إلا الصدَّ والإعراضَ، فضلاً عن السُّخرية والاستهزاء؛ فقد جلس الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى ثلاثةٍ من سادتِهم، وهم: عبدياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير، يدعوهم بالحُسنى وليِّن الكلام، فماذا كان جوابُهم؟ قال له أحدُهم هو يمرط - أيْ: يَنْزعها ويرمي بِها - ثيابَ الكعبة، إن كان الله أرسلك، وقال الآخَر: أمَا وجد أحدًا يرسله غيرَك؟! وقال الثالث: "والله لا أكلِّمك أبدًا، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنتَ أعظم خطرًا من أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تَكذب على الله ما يَنبغي لي أن أكلِّمك"، وهكذا كانت ردودُهم، تنبئ عن نفوسٍ خبيثة، وقلوب امتلأَت غِلاًّ وحقدًا على الدِّين الجديد.

كم تحمَّل الرسول، وصبَر على الإيذاء؛ راجيًا من الله أن يهدي قومه والبشريَّة إلى نور الحقِّ!

لقد صبَر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على سُخرية قريش واستهزائها به في كلِّ مكان يمرُّ به أو يجلس فيه، ولَم تكتف قريشٌ بذلك، وإنَّما لجأت إلى الإيذاء البدنِيِّ ومُحاولة الفتك بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ويأتي في مقدِّمة مَن حملوا لواء الإيذاء البدنيِّ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عمُّه أبو لهب، وامرأته أمُّ جميل أروى بنت حرب، وقد بدأت عداوتُهما لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مبكِّرةً منذ إعلان الدَّعوة على جبل الصَّفوة؛ فقد ورد في بعض الرِّوايات أنَّ أبا لهبٍ أخذ حجَرًا؛ ليضرب به النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يعلن دعوته على الملأ من قريش عند الصَّفا، وفي نفس الوقت فقد أمر أبو لهبٍ ابنَيْه عُتبة وعُتَيبة بتطليق ابنتَيْ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - واستجاب الابنانِ لذلك، وهذا التصرُّف من جانب أبي لهبٍ وابنيه فيه ما فيه من الإيذاء لِشُعور الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فضلاً عمَّا لحق ابنتَيه من أضرار نفسيَّة ومادِّية.

وأخذت أمُّ جميل زوجةُ أبي لهب بنصيبها من إيذاء النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكانت شديدةَ العداوة له، فكانت تحمل الشَّوك، وتضعه في طريق النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى بابه ليلاً، وكانت امرأةً سليطة اللِّسان، تبسط فيه لسانَها، وتطيل عليه الافتراءَ والدَّس، وتؤجِّج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواءَ على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لذلك وصفها القرآنُ الكريم بِحَمَّالة الحطَب.

ويُشير ابن هشامٍ إلى أنَّها حين بلغها ما نزل فيها وفي زوجِها أبي لهب؛ أقبلَتْ على النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو جالسٌ في ساحة الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق؛ أقبلَت عليهما وهي تحمل في كفَّيها حجارةً تريد أن تحصب بها النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرِها عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا ترى إلاَّ أبا بكر، فقالَتْ: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدتُه لضربتُ بِهذه الحجارة فاه، ثم انصرفَت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأَتْك؟ فقال: ((ما رأتنِي؛ لقد أخذ الله ببصرِها عنِّي))!

وشارك أمَّ جميل في إيذاء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعضُ زعماء قريش؛ كأمثال: عقبة بن أبي مُعَيط، وعدي بن حمراء الثَّقفي، وابن الأصداء الهذلي، وهؤلاء كانوا جيرانَه، فكان أحدهم يطرح عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - رَحِم الشَّاة وهو يصلِّي في بيته، ويرمون بالأشواك والأحجار في طريقه؛ فكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا صرَّحوا عليه ذلك يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: ((يا بني عبدِ مناف، أي جوارٍ هذا؟!))، ثم يلقيه في الطريق.

وازداد عقبة بن أبي معيط في شقاوته وخبثه؛ فقد رُوي عن عبدالله بن مسعود أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يصلِّي عند البيت، وأبو جهل وأصحابٌ له جلوس؛ إذْ قال بعضُهم لبعض: أيُّكم يجيء بسلا جزورِ بني فلان، فيضعه على ظهر محمَّد إذا سجد؛ فانبعث أشقى القوم، وهو عقبة بن أبي مُعَيط، فجاء به ينظر، حتَّى إذا سجد النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أُغْني شيئًا، لو كانت لي منَعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعضٍ أن يتمايل بعضهم على بعض - مرحًا وبطَرًا - ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ساجد لا يرفع رأسه، ثم قال: ((اللهم عليك بِقُريش)) ثلاث مرات، فشقَّ ذلك عليهم إذْ دعا عليهم، وقال: وكانوا يرون أن الدَّعوة في البلد مستجابة، ثم سَمَّى: ((اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، والوليد بن عُتبة، وأميَّة بن خلف، وعقبة بن أبي معيط))، فو الذي نفسي بيده لقد رأيتُ الذين عدَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صرعى في القليب؛ قليب بدر.

وشارك أبو جهل بدوره في إيذاء النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل وحاول قتله، يقول ابن إسحاق: قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنَّ محمدًا قد أبَى إلاَّ ما ترَوْن من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإنِّي أُعاهد الله لأَجلس له غدًا بحجر ما أطيق حملَه - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه، فأسلِموني عند ذلك، أو امنعوني، فلْيَصنع بعد ذلك بنو عبدمنافٍ ما بدا لهم.

قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامض لما تريد.

فلما أصبح أبو جهل أخذ حجَرًا كما وصف، ثُمَّ جلس لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ينتظرُه، وغدَا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما كان يغدو وكان بمكَّة، وقِبلتُه إلى الشَّام؛ فكان إذا صلَّى - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلَّى بين الرُّكنين: الرُّكن اليمانيِّ والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشَّام.

فقام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلِّي، وقد غدَتْ قريش، فجلسوا في أنديتهم يَنتظرون ما أبو جهلٍ فاعلٌ، فلمَّا سجد رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - احتمل أبو جهلٍ الحجَر، ثُمَّ أقبل نحوه؛ حتى إذا دنا منه رجع منهزِمًا منتقعًا لونُه، مرعوبًا، قد يبست يداه على حجَرِه، حتَّى قذف الحجر من يدِه.

وقام إليه رجالُ قريشٍ، فقالوا: ما لك يا أبا الحكَم؟ قال: قمتُ إليه؛ لأفعل ما قلتُ لكم البارحة، فلمَّا دنوتُ منه عرض لي دونه فحلٌ من الإبل، لا والله ما رأيتُ مثل هامته ولا قصرته - القصرة: أصل العنُق - ولا أنيابه لفحلٍ قطُّ، فهمَّ بي أن يأكلني.

قال ابن إسحاق: فذكر لي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ذلك جبريل، لو دنا لأخَذه.

وروى البخاريُّ بسنده إلى عروة بن الزبير قال: سألتُ عبدالله بن عمرو عن أشدِّ ما صنع المشركون برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: رأيت عقبة بن أبي مُعيط جاء إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يصلِّي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا؛ فجاء أبو بكر حتَّى دفعه عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربِّي الله، وقد جاءكم بالبيِّنات من ربكم.

كما تسلط عليه عتبة بن أبي لهب بالأذى، وشقَّ قميصه، وتفل في وجهه إلا أنَّ البزاق لَم يقع عليه، وحينئذٍ دعا عليه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال: ((اللهم سلِّط عليه كلبًا من كلابك))، واستُجيب دعاؤه فذبحه السَّبُع وهو بالزرقاء بالشام.

وروى أحمد في "مسنده" أنَّ الملأ من قريشٍ اجتمعوا في الحِجر، فتعاقدوا باللاَّت والعُزَّى، ومناة الثالثة الأخرى، ونائلة وإساف: لو قد رأينا محمدًا لقُمنا إليه قيامَ رجلٍ واحد، فلم نُفارقه حتى نقتله، وأخبَرَتْه ابنتُه فاطمة بالذي قالوا، فجاءهم وحصبَهم بقبضةٍ من تُراب مَن أصابته منهم قُتِل يوم بدر كافِرًا.

ونفس المعاملة السيِّئة والإيذاء البدَنِي لاقاه الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين دعا أبناءَ الطَّائف للإسلام، فقد مكث هناك عشرة أيام صابِرًا محتسِبًا يدعوهم بالرِّفق واللين إلى الإسلام، فما ازدادوا إلاَّ بطرًا وأشَرًا، بل وسلَّطوا غلمانهم وصبيانهم؛ لإيذاء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرموه بالحجارة حتَّى سال الدَّمُ الشريف من عقبيه، قال موسى بن عقبة: وقعدوا - أيْ: أهل الطَّائف - له صفَّين على طريقه، فلما مرَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين صفَّيهم جعل لا يرفع رِجلَيه ولا يضعها إلاَّ رضخوها بالحجارة حتَّى أدْمَوا رجليه، وزاد سليمان التيميُّ أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا أزلقَتْه الحجارة قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه، فيقيمونه، فإذا مشى رجَموه وهم يضحكون.

ماذا كان موقف الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا الجوِّ المشحون بالكراهية والسخرية والإيذاء؟ رفع رأسه إلى السماء راجيًا عَفْو الله ورحمته، وهنا يأتيه جبريل - عليه السَّلام - قائلاً له: ((إنَّ الله قد سمع قول قومِك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملَكَ الجبال لتأمره بِما شئتَ منهم، فناداني ملَكُ الجبال، فسلَّم عليَّ، فقال: يا محمَّد، ذلك لك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين - جبلان حول مكَّة - فقال النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: بل أرجو أن يَخرج من أصلابِهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا))؛ يا لروعة الإيمان والرحمة في قلب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم!

هذه الاعتداءات الكثيرة والمتكرِّرة مع إصرارهم على الكفر أصابت النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحزن؛ لكن ذلك الحزن لَم يُثْنِه أو يؤخِّرْه عن الاستمرار في نشر دعوته، وأراد الله - سبحانه وتعالى - أن يزيد من اطمئنان النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِوَعده بالنَّصر، وأن الكلمة العليا هي لله، فأرسل إليه جبريلَ، والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - جالسٌ حزين، قد خضب بالدِّماء، ضربه بعضُ أهل مكة، فقال له: ما لك؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فعل بي هؤلاء، وفعلوا))، فقال له جبريل: أتحبُّ أن أريك آيةً؟ قال: نعم، فنظر إلى شجرةٍ من وراء الوادي، فقال: ادع بتلك الشجرة، فدعاها، فجاءت حتَّى قامت بين يديه، فقال: مُرْها، فلْتَرجع، فرجعَتْ إلى مكانها، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حَسْبِي)).

هذه بعض صور السُّخرية والإيذاء التي تحمَّلَها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صبرٍ واحتساب، راجيًا من الله أن يهدي قومه والبشريَّةَ إلى نور الحق؛ إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتَرْكِ ما دون ذلك من الأوثان والأصنام، فصلاةً وسلامًا عليه في يوم مولده، وصلاة وسلامًا عليه في الأوَّلين، وصلاة وسلامًا عليه في الآخِرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدِّين.



التوقيع

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
زهرة اللوتس. متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-29-2023, 01:13 AM   #2
 
الصورة الرمزية ابو بدر عزت الشمري
 

ابو بدر عزت الشمري is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام الصابرين 🌾

جزاك الله خيرا
تحياتي



ابو بدر عزت الشمري متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-29-2023, 03:16 AM   #3
مراقب عام وأداري للمنتديات
 
الصورة الرمزية ريحانة شمران
 

ريحانة شمران is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام الصابرين 🌾

شكرا لك
بين مواضيعكم نجد
المتعة دائماً
وفقكم الله لقادم اجمل

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة



التوقيع

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ريحانة شمران متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-29-2023, 08:04 PM   #4
مشرفه عامه
 
الصورة الرمزية شمس الاصيل.
 

شمس الاصيل. is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام الصابرين 🌾


شكرا على الطرح الرائع
دام لنا عطائكم المميز
تحياتي الوردية ...
لكـ خالص احترامي
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة




التوقيع

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
شمس الاصيل. متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-30-2023, 03:48 PM   #5
 
الصورة الرمزية احمد صبحي الحارثي
 

احمد صبحي الحارثي is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام الصابرين 🌾

جزاك الله خيرا
ودمتم في حفظ الرحمن





التوقيع

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

احمد صبحي الحارثي متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-03-2023, 12:22 AM   #6
 
الصورة الرمزية طارق المالكي
 

طارق المالكي is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام الصابرين 🌾

جزاك الله خيرا
دمتم بهذا العطاء المستمر
لك خالص احترامي



التوقيع


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

التعديل الأخير تم بواسطة طارق المالكي ; 10-03-2023 الساعة 12:31 AM.
طارق المالكي متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-03-2023, 09:29 PM   #7
 
الصورة الرمزية عبير بنت شمران
 

عبير بنت شمران is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام الصابرين 🌾

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة



التوقيع

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
عبير بنت شمران متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-04-2023, 01:09 PM   #8
مراقب عام
 
الصورة الرمزية شمرانية الروح
 

شمرانية الروح is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام الصابرين 🌾

مشاركة مميزة
واطلاله رائعة
تسلم الايادي ولاحرمنا من هذا التواجد الفعال

ودي لك وتقديري
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة



التوقيع

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
شمرانية الروح متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-13-2023, 02:59 PM   #9
مساعد للمدير العام ومستشار للمنتدى
 
الصورة الرمزية الحمدان
 

الحمدان is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام الصابرين 🌾

بارك الله فيك
وجزاك الله خير
موضوع رائع وجميل
وفقك الله لكل خير
وبارك فيك
تحياتي وتقديري لك



التوقيع


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
الحمدان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس

إضافة رد

مواقع النشر




ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc. Trans by
جميع الحقوق محفوظة لـ منتديات شمران الرسمية