الغليون والدلة / د. أمل الطعيمي🍂

02-01-2023, 06:04 PM

الغليون والدلة

د. أمل الطعيمي

لا معنى آخر للغليون في العربية يتناسب مع النص سوى تلك الأداة الخشبية التي يعبأ فيها التبغ وتستخدم منذ قرون، وغالباً أنها كانت معروفة في زمن الشاعر عند فئة من الرجال ولكنها كانت تعد منقصة فيهم أو علامة من علامات الميل للهو والعبث..

(ياذا الحمام) من أجمل السامريات المشهورة التي أزعم أن كل شخص من محبي السامري لا بد أن تكون لها مكانة في قلبه لارتباطها غالباً بذكرى جلسات سمر عائلية أو مع الأصدقاء في الرحلات البرية أو حتى داخل البيوت، شخصياً سمعت هذه السامرية في طفولتي وتغنيت بها مع الكبار على نغمة الطار، وما أن أسمعها حتى تتراءى لي تلك الوجوه الغالية التي رحلت عن دنيانا إلى رحمن رحيم.
هذه السامرية تنسب للشاعر محمد بن لعبون وينسبها بعضهم لمحمد بن علوش ولهذا جاءت بروايتين أو أكثر وحتى تلك الرواية التي اشتهرت بنسبتها لابن لعبون غالباً ستجد أنهم يحذفون منها قوله: يا من يعاوني على الغليون.. والدلة الصفرا مركيها.. وإذا أثبتوه في النص تجاوزوه في تعليقهم أو شرحهم أو يذهبون مذهباً بعيداً في فهمهم له فيزعمون أنه يشبه جسد محبوبته بشكل أو قوام الدلة!! بحجة أن القصيدة غزلية ولا مجال لمعنى آخر فيها.
وما أراه غير ذلك تماماً؛ فالشاعر كما يبدو يجلس وحيداً لا يشاركه المكان سوى ذلك الحمام الذي يصله هديله فتهيج ذكرى حبيبته ويبث همه وحبه وغزله فيها لذاك الحمام:
ياذا الحمام الذي سجع بلحون
وش بك على عيني تبكيها
ذكرتني عهد مضى وفنون
قبلك دروب الغي ناسيها
أهلي يلوموني ولا يدرون
والنار تحرق رجل واطيها
لا تطري الفرقا وأنا المحزون
ما اداني الفرقا وطاريها
يامن يعاوني على الغليون
والدلة الصفرا مركيها
فهديل الحمام بالقرب منه هيض الذكرى بعد أن ظن بأنه تجاوز ذلك الزمان في (دروب الغي) ولا يحتمل أن يذكره صوت الحمام بالفراق الذي التاعت به نفسه، ولهذا تمنى لو يجد من يشاركه وحدته في تلك اللحظة حتى يبتعد بفكره عن (الفرقى وطاريها)، وعندما قال: يا من يعاوني على الغليون .. والدلة الصفرا مركيها، كأنه يبحث أو يتمنى لو وجد من يشاركه مجلسه الذي أعد فيه دلته الصفراء وغليونه للتدخين.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل هذا البيت يستبعد من القصيده وكأنهم لا يريدون أن يظهروا الشاعر كمدخن للغليون! فلا معنى آخر للغليون في العربية يتناسب مع النص سوى تلك الأداة الخشبية التي يعبأ فيها التبغ وتستخدم منذ قرون، وغالباً أنها كانت معروفة في زمن الشاعر عند فئة من الرجال ولكنها كانت تعد منقصة فيهم أو علامة من علامات الميل للهو والعبث الذي وصف فيه ابن لعبون على حد قول بعض من أشاروا له ومنهم المؤرخ خالد الفرج.
وربما رأى بعضهم أن ذاك البيت لا يتناسب مع النص بحكم أن القصيدة غزلية، وهي في الحقيقة قصيدة شكوى يبثها الشاعر للحمام ثم يوضح فيها سبب حزنه وعدم رغبته في (طاري الفراق) فقد فارق من قبل محبوبة جميلة وتزداد جمالاً عندما تتجمل بالحلي المميزة في نهار العيد:
أربع بناجر في يد المجمول
توه ضحي العيد شاريها
ثم تأخذه الذكرى بعيداً ويستغرق في استرجاع صورة تلك الجميلة التي لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها ولها مشية تشبه مشي الحمام الراعبي بخطى قصيرة ومسترخية فتبدو وكأنها تختال في خطاها، وهو تشبيه ورد عند كثير من الشعراء إذا أرادوا وصفاً دقيقاً لخطوات امرأة ما.
ويعود الشاعر مرة أخرى لتذكر صورتها بأجمل الحلل التي تتزين بها فتزيدها إشراقاً ونوراً على نورها:
عمره ثمان مع عشر مضمون
مشي الحمام الراعبي فيها
ستة بناجر واربعه يزهون
وان اقبلت فالنور غاشيها
حتى يختم قصيدته بقوله:
يا من يباصرني انا مفتون
روحي ترى فيها الذي فيها
ومن الولع والحب انا مجنون
يا ناس انا وش حيلتي فيها؟
و(يباصرني) وهو هنا يبدي رغبته أن يشاركه إنسان ما الرأي فيما ابتلي به من حبها فلعله يخفف عليه من فيض مشاعره وفتنته فيها، فالحمام الذي كان يشكو إليه لا يستطيع ذلك. فهو وحيد في مكان ما فإن لجأ لمخاطبة الحمام فما ذلك إلا من قلة الحيلة لأنه يرغب بإنسان يشاركه لحظته يدخن معه الغليون ويشربون القهوة ويتباصرون في فتنته الجميلة البعيدة مكاناً وزمناً.
وتبقى هذه القصيدة جميلة بلحنها السامري رغم تكرارها بأصوات كثيرة فردية لكثير من المغنين وجماعية للفرق التي تؤدي السامري، ومن أجمل من أداها الفنان محمد عبده وسلامه العبدالله وفرقة عنيزة للتراث الشعبي وأحمد الحريبي من الكويت.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة