هَولٌ وكرب ينتظرُ الغرب

هَولٌ وكرب ينتظرُ الغرب

لم يعد خافيا على جميع المحللين والمراقبين مدى الأزمة التي حلَّت بالغرب وكيف بات يلطُم خَدَّّه ويندب حظه على هذه الحرية المطلقة التي منحوها للبنوك والشركات والبورصات لتأكل أموال الناس بالباطل وتلتهم مدخراتهم وودائعهم. وهذا نتاج طبيعي لتلك الحرية التي منحوها للرأسمالية ليشبعوا جشعها فاستحوذت على كل شيء دون رقيب أو حسيب وأغرقوا الشعوب في أخطاء فلسفاتهم البائدة. وقد صدّعوا رؤوس العالم بهذه الأفكار والفلسفات البائدة باسم حرية السوق وحرية التجارة حتى ظهر لهم فشلها وبان عوارها وأمسى الكل على قناعة تامة بوجوب إعادة النظر فيها. فانقلبوا على مبادئهم ووقف بوش ينادي بضرورة اتفاق الدول على مبادئ جديدة لضبط التجارة وضبط النظام المالي العالمي، وقد كانوا من قبل يُصدّرون مبادئهم الفاشلة للعالم.

وانطلقت مظاهرات التنديد بالرأسمالية، من سويسرا إلى الكويت، منادية بضرورة وضع قواعد ثابتة وقوانين صارمة تحكم البنوك والبورصات والاقتصاد بصفة عامة وتضع ضوابط لهذه الفوضى الاقتصادية.

وقد أقر غرينسبان الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بأنه اقترف خطأ خلال ولايته بالظن أن المُقرِضين كانوا أكثر فعالية من أنظمة الرقابة بحماية مصالحهم، مضيفاً بأنه "ذهل" عندما "انهار" النظام المالي. وقال غرينسبان: "إنه مازال لا يفهم كيف حدث ذلك بالضبط" وأضاف "لقد اكتشفت عيبا في فلسفتي الاقتصادية؛ ولا أعرف مدى خطورته أو ديمومته، لكني في غاية الاستياء من هذه الحقيقة". وقد رفض مرارا تشديد الأنظمة التي تتحكم بنشاط السوق، تاركا لها كافة الحرية في تقويم نفسها - والصحيح أنه ترك القوي يأكل الضعيف بحجة حرية السوق! والعجيب في الأمر أن غرينسبان "مازال لا يفهم كيف حدث ذلك"!

وقد أعلن رئيس وزراء فرنسا أنه لا يمكن أن نسمح لأمريكا أن تستدين من العالم إلى الأبد، أي لم يعد لأمريكا مطلق الحرِّية لتفعل في العالم ما تشاء، بل ستجد من يطالبها بالدَّين وتأدية حقوق العالم، ولن يُسمح لها مستقبلا أن تجُرُّ العالم لمثل هذه الأزمات والكوارث. ولم تعد أمريكا بيت الحكمة والقيم والمبادئ الذي يسود العالم، بعد أن جرَّت عليه الويل والخراب والدّمار .

وإن كان الغرب قد أدرك متأخرا خطورة الفوضى التي تحكم الاقتصاد والاستثمار فإنه لم يدرك بعد خطورة الديمقراطية التي سمحت لهذه الفوضى أن تعم، ولم يدرك فشل الديمقراطية التي شرّعت القوانين التي تحمي هذه الفوضى الاقتصادية، فكل سياسي وصل لموقعه بدعمٍ من مؤسسة مالية أو رأسمالية، فكيف يُشَرِّع من القوانين ما يضرُّ مصالح هؤلاء الوحوش؟ ولقد رأينا كيف سارعت الديمقراطية لإنقاذ أصحاب البنوك المفلسة من جيوب دافعي الضرائب، تاركين الفقراءَ والمودعين وأصحابَ الأسهم نهبا لهذه المؤسسات والبنوك! ولم يدرك الغرب بعد وجوب أن تكون هذه الديمقراطية محكومة ومقيدة بحدود الشرع والدين المنزّل من رب العالمين؛ الذي خلق الناس وهو أعلم بما يُصْلِحَهم وما يُحييهم.

ولم يدرك الغرب حتى الآن خطورة دعوته لحرية المرأة في الحمل من سفاح وفي إجهاض نفسها والتبذل ونشر الفاحشة، فانقطع نَسْـلُهم وأوشكت مجتمعاتهم على الفناء! بعد أن وصلت شعوبُها لسن الشيخوخة، وأخذ المنحنى السُّكاني في الغرب ينتكس تماما كما انتكس المنحى الاقتصادي. ولم يدرك الغرب أهمية وضرورة تقييد حرِّية المرأة بقواعد الشرع والدين. وعليه إذن أن ينتظرَ كارثةً أخرى تحل به أقوى وأشدُّ من كارثة الانهيار الاقتصادي.

وترك الغرب للصحافة والإعلام الحرية المطلقة في هدم ثوابت الأمم وتدنيس مقدساتها ونشر الرذيلة والفاحشة في المجتمعات، وترك للإعلام حرية غزو عقول الناس وقلوبهم بالخور والجبن وبث الشائعات فأقعد هممهم، وسفَّه أحلامهم. وغدا المجتمع تافها متشرذما. ولم يدرك الغرب خطورة هذه الحرية الحيوانية على المجتمعات والأمم، وضرورة أن تَحْكُمَ الإعلام قواعد وقوانين ربَّانِية تمنعه من بث الرذيلة والفاحشة وتمنعه من هدم قواعد المجتمع وثوابته.

ولقد اكتوى الغرب بنار الفوضى الاقتصادية وعلم خطورة الحرية المطلقة ومازال يعض أصابع الندم ولكنه أطلق العنان لسفهائه ليَسُبّوا خير البشر - محمد صلى الله عليه وسلم - تحت ذريعة حرية التعبير! فأوقعوا الفتنة بين طوائف المجتمع وبين شعوب الأرض فسالت دماء وزهقت أرواح. ولإن تمادى الغرب في تجاهله ضرورة وضع حدود وقواعد تمنع تعدِّي وتطاول سفائه على مقدسات المسلمين؛ فإنه واقع في خطأ أشد قسوة من خطأ غرينسبان الذي هدم اقتصادهم - خاصة عندما تقع حرب طاحنة يُباد فيها شعوب بأكملها. عندها لن يفيد الغرب ندمه.

وإن كان لأمريكا مطلق الحرية في نهب ثروات الشعوب وسفك دمائهم فلا تلومنَّ إلا نفسها حين يتخلى العالم عنها في أحلك مِحَنِها، أو تُضْرَبُ في عقر دارِها بيد من لا يرحمها.

ولإن كان الغرب قد منح إسرائيل مطلق الحرية في إبادة الشعوب ونهب ثرواتها واحتلال أرضها وتدنيس مقدساتها وفي انتهاك كافة القرارات الدولية المزعومة؛ فإن انتقام الأجيال القادمة من الغرب سيكون أشدُّ وطأة وأكثر فتكا من انتقام تنظيم القاعدة، وحينها سيعلم الغرب أن خطأ غرينسبان كان أقل شأنا من خطئهم الآن.

وخلاصة القول أن الفلسفة الصحيحة التي يُنكِرها الغرب ويجهلها غرينسبان هي: أن كل حرية مطلقة في حقيقتها عبودية لهوى الشهوة ونزوات الشيطان أو عبودية للمادة وجشع النفس، وخطرها يفتك بالمجتمع ويكدر صفوُه ويهدم بنيانه؛ لأنها تعني الفوضى أو شريعة الغاب التي يأكل فيها القوي الضعيف. وإذا كان المرء واقع في العبودية لا محالة؛ فأشرف له أن يكون عبدا مخلصا مطيعا لله الذي خلقه وشرَّع له من الدين ما يحفظ به حياته وكرامته في الدنيا والآخرة. كما يحفظُ المجتمع من شر الفرد وخطره وأذاه. وإذا رفض فردٌ أن يذعن لله وأبى إلا أن يكون عبدا لهواه ونزواته وأطماعه؛ فمَثلُه كمثلِ السُّوس الذي ينخر في المجتمع ويفسد فيه، ويجب على الكل إرغامه على الطاعة والانصياع لأمر الله حتى لا ينهار المجتمع بفساد أفراده قال تعلى: (واتقوا فتنة لا تُصِيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة).

وأخيرا إن كان الغرب لا يعي قيمة المبادئ والقيم الدينية التي يجب أن تسود وتحكم سلوك البشر والمجتمعات وتنظم معاملاتهم؛ فلا يستغربنَّ إن أمسى في كارثةِ أو أصبح على مصيبة أشدُّ وطأةً من مصيبة انهيار النظام المالي، حتى يفهم غرينسبان كيف حدث ذلك؟!!

كتبه

د. محمد حافظ

26/10/2008م

وين الردود