مشاهدات يومية !!

لتسمحوا لي فمشاهدتي هذه المرة عبارة عن قصة قصيرة ..

أتمنى أن تحوز على رضاكم .

( أم هارون )

منذ غادرت الحارة توقف الآباء عن أخذ أبنائهم إلى المستشفيات وانحسرت أسراب الذباب من الشارع المقابل لبيتنا ، فماإن يحين العصر حتى تقبل بمشيتها المميزة فهي تبدو من بعيد وكأنها كرة تتدحرج على الأرض نظراً لتكور جسمها داخل ثوبها الأحمر المرقط باللون الأسود ، تلف حول خصرها قماشاً كلحي اللون لاتتزين به بل لتشد به ابنها هارون ذي السنتين على ظهرها فتتدلى رجليه على جوانبها وكأنهما أعواد بالية، ترمي بثقلها على ناصية الشارع ذي الأرضية الترابية المائلة للسواد ربما من كثرة ماسكب عليها من زيوت العربات المتوقفة أوزجاجات المياه الملوثة والتي كان يتناولها بعضهم خلسة في زوايا الشارع عندما يحل الظلام .
تسارع إلى افتراش الأرض فتضع هارون إلى جانبها وأشياء أخرى تسميها هي بضاعة إنها شيء من البطاطس المقلية على عجل وشطة الحبحبوه وقليلاً من حبات القورو الأخضر وعجينة صفراء مات سرها مع أم هارون .
اثنان فقط هما من استطاعا أن يبرما اتفاقية مع الحاجة أم هارون تتجدد مع عصر كل يوم إنهما أطفال الحارة وأسراب الذباب فما أن تأخذ مقعدها الوثير في تلك الناصية حتى يتهاوى عليها الجميع ويلتف حولها الجميع فيما هارون يرمق الموقف بعينين مرمدتين .
أصبحت مع مرور الوقت معلماً بارزاً من معالم حينا ، فهو حي الحاجة أم هارون لمن لايعرف اسمه الحقيقي ، ورغم مرارة الفقر البغيضة التي تأبى إلا أن تصبغ أيام أم هارون بألوانها الباهتة والرديئة إلا أن ابتسامتها اللطيفة كانت تنساب كقطعة حلوى لذيذة وخصوصاً عندما ينهرها أحد الآباء بأن وجبتها الرديئة هي من تسببت في تسمم أحد أبناءه فتفر من شفتيها ابتسامة حائرة ثم تقول : ( هرام عليك أنا هرمه مسكينة ) أما عندما يخاتلها أحد الأطفال الأشقياء فيسرق منها قطعة بطاطس أو حبة قورو فإنها تنهره قائلة ( ياهرامي ، والله لأضربكي بالأسايا ياهيوانه ؟!) وتظل تنتفض في مكانها وكأنها جبل من الشحم ولكنها لاتستطيع القيام إلا بصعوبة قصوى وبعد أن يتجاوز الطفل شارعين أو ثلاثة .
لا أحد يدري كم من السنين مضت وأم هارون تفترش ناصية الشارع ولاأحد يدري من الذي اكتشف غيابها أولاً هل هم أطفال الحارة أم أسراب الذباب ، مرت ثلاثة أيام والناصية خالية من أم هارون حتى أتى أحدهم ذات ليلة يحمل هارون بين يديه وهو يبكي ، تسابق الجميع لسؤاله عن أم هارون وعيونهم تكاد تلهتم ذلك الصغير شفقة ورحمة !
كادت الغصة أن تخنقه عندما قال :
ماتت في حادث سيارة ..!
صمت الجميع ..
وانتحبت الناصية ..
وتلاشى الشارع في أعين الأطفال ..
وأختفى الذباب .